الرئيسيةشعرأنا وملجأ الأيتام ” في عش الدبابير
شعر

أنا وملجأ الأيتام ” في عش الدبابير

” أنا وملجأ الأيتام “
في عش الدبابير
صرخة العاجز وشوشات وأنين
الستار يرتفع ببطء
قاعة مظلمة إلا من بصيص نور ،
يتسلل من نافذة عالية مكسورة.
الجدران متآكلة ، الرطوبة تلتهم الطلاء،
والأسرة الحديدية تصدر صريراً مع كل حركة.
أطفال بملابس رثة ، عيونهم غائرة ،
تائهة بين الخوف والرجاء ،
يلوكون كسرة خبز يابسة كأنها آخر ما تبقى من الحياة.
(طارق يتقدم إلى الأمام ، صوته يخرج متهدجًا لكنه مصمم)
طارق:
هنا حيث يختبئ الصمت في العيون الصغيرة.
هنا يولد الحزن قبل أن يتعلم الأطفال الكلام.
هنا كل جدار يحمل دمعة لم تُمسح ،
وكل نافذة مكسورة حلم لم يكتمل.
(طارق يسكت قليلاً ، يقترب من طفل يجلس على الأرض)
(الطفل بهمس ، عيناه مبللتان ):
كنت أبحث عن وجه أمي بين الوجوه
قالوا لي إنها ذهبت ولن تعود.
كل ليلة أغلق عينيّ
وأنا أظن أنها ستدخل الغرفة ،
أستيقظ لأجد البرد مكان حضنها.
وهذا البرد سيبقى معي إلى أن أكبر ، كذكرى لم تُطفأ.
(طفلة ترفع رأسها بخجل وخوف)
الطفلة :
أبي تركني هنا ، قال لي : “مكانك بينهم”.
انتظرته سنوات ، وكل باب يُفتح أظنه هو.
الحلم يظل بابًا يُغلق أمامي.
وأظنه الآن جزء من حكاية لا تنتهي في قلبي.
(طفل يرفع يده المرتعشة ، شفتاه ترتعشان)
الطفل :
لا أعرف طعم الحلوى إلا من صور في الكتب.
أعرف الخبز اليابس وصدى البكاء في الليل.
أحلم فقط بأن يحن عليّ أحد ، ولو مرة.
وسأحمل هذا الحنين كجروح لا تُرى ،
لا تشفى مع الزمن.
(طفلة صغيرة تمسك لعبة مكسورة ،
تتحدث كأنها تكشف سرها)
الطفلة :
أخاف من الظلام ،
يطفئون الأنوار باكراً ويتركوننا وحدنا.
أبكي في الليل ، ثم أضحك كي لا يلاحظوا.
ورغم ذلك ،
سيبقى خوفي يعيدني كل ليلة إلى البحث عن ضوء لم يأتي.
(طفل ينظر مباشرة إلى الجمهور ، صوته رقيق لكنه ثابت)
الطفل:
أحاول أن أتعلم أسماء الأشياء الكبيرة :
“بيت” ، “أسرة” ، “أم”.
لكن الكلمات تبدو بعيدة ،
كأنها تعلق فوق سحابة لا أستطيع الوصول إليها.
وسأكبر وأنا أحمل كلماتٍ ناقصة ،
عن حقي في أن أكون طفلاً فعلاً.
(طفلة جديدة تدخل من زاوية المسرح ،
تحمل قطعة قماش بالية كأنها كنز)
الطفلة :
هذه القماشة كانت غطاءً لي منذ كنت رضيعة.
لم أجد سواها ، أحتضنها كل ليلة كأنها أمي.
كلما اهترأت أكثر ، أحسست أن حضني يتلاشى معها.
(طفل قصير القامة،
يضم ذراعيه حول جسده
، يتحدث بعينين مكسورتين)
الطفل :
لا أحب المرآة ، لأنني كلما نظرت إليها رأيت نفسي غريباً.
أحاول أن أبتسم مثل باقي الأطفال ،
لكن ابتسامتي تبدو مكسورة.
ربما لأني كبرت قبل أواني ،
كبرت وأنا أبحث عن يد تمسح على وجهي.
(طفلة نحيلة ، تتكلم بصوت متردد كمن يعتذر)
الطفلة :
كل عام أرى زملائي في المدرسة ،
يذهبون مع أمهاتهم وآبائهم ، وأنا أعود وحدي.
أجلس على الدرج وأنتظر أن يسألني أحد: “أين أهلك؟”
لكن السؤال لا يأتيني ،
كأنهم يعرفون الجواب ويخافون منه.
فأبقى أنا والدرج ، والانتظار الذي لا ينتهي.
(طفل يمسك كتابًا ممزقًا)
الطفل :
أحب الحكايات ، لكنها كلها تنتهي ببيتٍ دافئ وأسرة سعيدة.
أغلق الكتاب كل مرة وأنا أتساءل :
أين تنتهي حكايتي أنا؟
ولا أجد غير هذه الصفحات الممزقة التي تشبه حياتي.
(طفل يحمل دمية ممزقة) :
هذه دميتي ، كنتُ أضعها بجانبي حين أنام ،
كأنها أبي الذي لم يعد.
كنتُ أسألها :
“هل سمعْتِ صوته في الليل؟ هل سيعود غداً؟”
لكنها صامتة ، صامتة مثلي.
(طفلة تمسك بقطعة خشب كأنها قلم) :
كنتُ أرسم بيتاً على الجدران ،
كلما انهار جدار ، انهار حلمي معه.
لا بيت يحميني ،
ولا ورقة تكفي لتحتوي بيتاً آخر في خيالي.
(طفل يبكي وهو يتحدث) :
كنتُ أركض في الساحة ، لم يلتفت أحد حين سقطت.
ضحكوا عليّ ، قالوا إنني بطيء ،
لكنني لا أريد أن أسبقهم ، فقط كنتُ أريد أن أصل.
(طفلة تحمل كتاباً مهترئاً):
هذا كتاب أمي ، أفتحه كل ليلة بحثاً عن رسالةٍ منها.
لكن الصفحات فارغة ، مثل قلبي الذي جفّ.
أقرأ، وأقرأ ، ولا أجد سوى صمت يلتهمني.
(طفل يرفع حذاءً ممزقاً) :
حذائي مثقوب ، يسخر مني الطين كلما خطوت.
لكنني أمشي ،
أمشي وكأنني أخاف أن يتوقف الطريق عن انتظاري.
(طفلة تمسك ببطانية رقيقة) :
كنتُ أرتجف من البرد ، غطيتُ نفسي بها.
لكنها لم تدفئني ،
بل صارت تذكرني بيدي أمي التي كانت تلفّني برفق.
الآن ، لا دفء إلا في الدموع.
(طفل يحمل صورة ممزقة) :
هذه صورة أخي ، اختفى في الزحام يوم الغارات.
أبحث عنه في الوجوه ، في الأحلام ،
في العيون التي تمرّ من أمامي.
لكني لا أجد سوى ظلّي ، وأتمنى لو كان هو.
(طفلة تحمل علبة فارغة) :
كنتُ أضع فيها الحلوى التي لم تأتِ أبداً.
أفتَحها كل ليلة ، أجدها فارغة مثلي.
أحياناً أضع دمعة فيها ، لتملأها بشيء.
( طفل يمسك بطنه) :
كنتُ أجلس أمام المائدة الفارغة ،
أحلم برغيف خبزٍ طريّ ،
برائحة أمّي وهي تُعدّ الطعام ،
لكنني استيقظ دائماً على الجوع ،
الجوع الذي يأكلني قبل أن آكل أنا.
(طفلة تحمل كرة بالية مثقوبة) :
كنتُ أركل هذه الكرة ،
أركض خلفها وأضحك ،
لكنها الآن لا ترتدّ ، لا تلعب معي ،
صارت مثل صدري المثقوب.
لعبتي ماتت ، مثلي.
(طفل يمسك لوحاً مكسوراً من الخشب) :
كنتُ أكتب عليه الحروف ،
أريد أن أكون معلماً ، طبيباً ، شيئاً ، أي شيء!
لكن المعلم رحل ، والمدرسة انهارت ،
وظلّت الحروف بلا معنى ، مثلي بلا مستقبل.
(طفلة تجر وراءها حبلًا ممزقاً) :
كنتُ أقفز به مع صديقاتي ،
نضحك حتى نتعب ،
لكنهن رحلن ، وبقيتُ وحدي أقفز على الفراغ.
الحبل انقطع ، وكذلك طفولتي.
(طفل يحمل كيساً فارغاً) :
كنتُ أملأه باللعب الصغيرة ،
بالأحجار التي أتخيلها جنوداً وأبطالاً
الآن هو فارغ ، مثل غرفتنا التي صارت مقبرة.
كلما نظرت داخله ، شعرت أنني أنظر إلى نفسي.
(طفلة تضم وسادة صغيرة) :
كنتُ أضعها تحت رأسي وأحلم ،
لكن أحلامي أصبحت كوابيس.
أرى دائماً باباً يُغلق ، يداً تدفعني إلى الظلام.
لم أعد أريد أن أنام ، لم أعد أريد أن أستيقظ.
(طفل يحمل بقايا شمعة) :
هذه الشمعة ، كانت تضئ لي الطريق.
لكنها احترقت كلها ، ولم يبقَ إلا رمادها.
أخشى أن أكون مثلها ،
أضيء قليلاً ثم أنطفئ إلى الأبد.
(طارق يرفع صوته ، ألم في نبرته ، لكنه صارم)
طارق :
هل سمعتم ؟
كل واحد هنا يحمل قصة ليست له خطيئة فيها.
ليسوا مجرد أرقام أو أطباق تُملأ ليُعاد تفريغها
، هم بشر ،
أرواح تُركت لتكبر على ندوب الإهمال.
طارق ممزق القلب :
كفى!
كفى موتًا في الحياة!
لا تتركوا الجروح تكبر ،
لأنها تصبح جزءًا من الروح!
(الإضاءة تتصاعد ،
القاعة تشتعل بنور أبيض يلسع ،
صرير الحديد يعلو ، أنين الجدران يصرخ.
طارق يسقط على ركبتيه،
يصرخ مع الأطفال.)
طارق والأطفال معًا ، بصوت واحد مكثف بالألم :
لن نُمحى من ذاكرة هذا المكان!
لن تُنسى وجوهنا ولا أصواتنا!
(الأطفال يلتفون حول طارق ،
أصواتهم تتعالى كجوقةٍ من الألم :
جوع ، برد ، فَقْد ، صرخات ممزقة.
طارق يقف في المركز ،
ذراعيه مرفوعتان كمن يتحدى السماء.
فجأة يبدأ صوت تصدع الجدران ،
المسرح كله يهتز ،
الضوء يتحول إلى أحمر كدمٍ يغمر المكان).
طارق بصرخة هادرة :
الملجأ ينهار!!!
لكن الجدران ليست وحدها التي سقطت
إنها قلوبكم!!!
الأطفال :
نحن الأيتام ، نحن الصرخة و نحن القيامة!!!
(فجأة يخفت الصوت ،
ويبقى طفل واحد فقط في الوسط ،
يحمل شمعة صغيرة مرتجفة.
يقترب ببطء نحو مقدمة الخشبة ،
يرفع عينيه نحو الجمهور).
الطفل بهمس مرتجف :
حين تنطفئ شمعتي ، ينطفئ العالم.
(الطفل ينفخ على الشمعة.
ظلام مطلق يبتلع الخشبة.
آخر ما يُسمع : شهقة طويلة ،
ثم صمت ثقيل كالموت.
الستار يُسدل ببطء والجمهور يظل جالساً مذهولاً،
كأنه في جنازة كونية).
كل واحد من الجمهور يسأل نفسه سرا :
من القاضي ومن الجلاد؟
تمت
طارق غريب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *