إعادة النظر في مفهوم اللاوعي The unconscious— للمحلل والطبيب النفسيّ توماس أوجدن:
بقلم / د. حنان حسن مصطفي
”… أرى إنّ «اللاوعي» ليس مكاناً ولا شيئاً، بل هو – كيفية – في التفكير والشعور وكيفية في الخبرات المُعاشة. إنّ ما نسمّيه باللاوعي ليس سوى خبرات، وأبعاد من الوعي ذاته—وعي ينبغي ألّا نخلطه بما قصده فرويد بالعقل الواعي—أبعاد تنطوي على معانٍ عميقة لخبراتنا المُعاشة. ولعلّ ما لا يُقدَّر في تصوّر فرويد هو طريقته في وصف نوعية التفكير الذي نسبه إلى العقل اللاواعي. غير أنّ المعاني العميقة والكامنة في الأحلام وغيرها ليست برهاناً على وجود اللاوعي، بل هي شاهد على قدرتنا على النفاذ إلى المعاني العميقة في خبراتنا المُعاشة الواعية. الوعي، بما هو حصيلة الذوات التي نحياها، هو الوسيلة الوحيدة التي نملكها لفهم المعاني العميقة لتجاربنا.
وقد يُقال اعتراضاً: أليست الأحلام مرآةً للرغبات الخفية والمخاوف التي لا يُجرؤ على التفكير بها؟ ألم يُثبت فرويد وكثير من المحلّلين أنّ الحلم يعبّر عمّا لا يُعاش في حياة اليقظة؟ أليست الأحلام حياةً أخرى نعيش فيها ما لم نجرؤ على عيشه في النهار؟ أليست وسيلةً لمعرفة أنفسنا وعواطفنا؟ نعم، أوافق على كل ذلك. ومع ذلك، فإنّ هذه الأفكار لا تقدّم برهاناً على أن اللاوعي شيء يتجاوز كونه مفهوماً.
بل إن «التفكير الحلمي dream-thinking» يُظهر أنّنا نعيش مع أنفسنا بطريقة مختلفة ونفكر بشكل آخر حين ننام، وأنه بإمكاننا أن نتعلّم عن ذواتنا من خلال تأمّل المعاني الكامنة في هذه التجربة. لقد فتح فرويد أبواباً ثمينة لفهم المعاني الكامنة في الصور الذهنية التي تراودنا أثناء الاحلام. غير أنّ ما نكتشفه لا يتجاوز كونه «معنى عميقاً وكامناً latent meaning»، لا برهاناً على أنّ وراء ذلك كياناً مستقلاً يُدعى اللاوعي.
قد يتّضح فهم ما ينطوي عليه الكشف عن المعاني العميقة في الأحلام إذا شبهناه بما ينطوي عليه فهم المعاني العميقة في الأدبيات. عند قراءة نص أدبي—سواء كان خيالياً أو واقعياً، شعرياً أو مسرحياً—لا يوجد معنى خلف الكلمات أو تحتها، بل المعاني تكون في الكلمات نفسها وفي الأثر الذي تُحدثه بنا. نحن نستمع إلى الكلمات، لا من خلالها. وعندما نتفاعل مع النص، نفعل شيئاً معه، نعيشه، وأحيانًا نضع في الكلمات تعبيراً عن فهمنا للمعاني العميقة فيها، لكن لا شيء يكمن وراء الكلمات.
أن نتخيّل اللاوعي كأنه ظاهرة تقع في مكانٍ ما، هو خطأ شبيه بأن نتخيّل العقل شيئاً جالساً في الرأس أو إلى جواره أو في أي موضع آخر. العقل—بخلاف الدماغ—ليس اسماً جامداً، بل فعلًا متواصلًا، حدثاً حيّاً، لا يكفّ عن التغيّر والتحوّل. رآه وليم جيمس يوماً «كأنه سيلٌ متدفق من الوعي»، العقل ليس جماداً، بل هو حركة حياتنا: خبرات تُعاش، أفكار تنبثق، مشاعر تتوهّج، وسردية مستمرة. نعم، يمكننا أن نصف الكيفية التي نتصوّر أنّ العقل يعمل بها، لكننا ونحن نفعل ذلك، نقع في خطأ آخر: نفترض وجود شيء مادي أو كيان يسيّر كل أفكارنا وأحاسيسنا وأحلامنا.
في نهاية المطاف، كل ما بين أيدينا هو الوعي، الذي يختلف عن مفهوم فرويد للعقل الواعي. أرى الوعي كتجربة معايشة أفكارنا ومشاعرنا وأحاسيسنا، ومع مرور الزمن، تتشكل فينا القدرة على التأمل الذاتي: أن نرى أنفسنا ونتحدث إليها من موقع مزدوج، حيث نكون في آن واحد كل من نعيشه ونشهد عليه، «الذات/Subject» و«الموضع/الكيان Object». لا شيء يكمن تحت الوعي أو خلفه. […]
أجد تعليق بول إلود (1968) ذا قيمة في إعادة تصورنا لمفهوم فرويد عن «اللاوعي»: «هناك عالم آخر، لكنه في هذا العالم». فاللاوعي عند فرويد عالم آخر، لكنه موجود في هذا العالم، في الوعي نفسه، لا خلفه ولا تحت سطحه. ما سماه فرويد باللاوعي هو بُعد من أبعاد الوعي، لا مملكة قائمة وراء حاجز الكبت.
فكيف نقترح أن نفكر في تجربتنا إذا كان اللاوعي مجرد فكرة؟ أرى أن نقول إننا نستنتج عن الوعي، ذلك الكل المتجسد في ما نعرفه ونعيشه من خبرات. فعندما ننظر إلى عملنا على أنه استنتاج حول الوعي، نتجنب الوقوع في وهم وجود عقل آخر أو عالم آخر لا وجود له. نحن نعلم أن الوعي موجود، وأنه يحمل معاني عميقة وخفية. وليس القول بذلك إشكالًا في استخدام مفهوم اللاوعي، لكنه تذكير بأننا حين نستخدم هذه الفكرة، يجب أن نعي أنها مجرد فكرة، لا مكان، ولا عقل ثاني.”
إشارة إمتياز
إعادة النظر في مفهوم اللاوعي The unconscious— للمحلل والطبيب النفسيّ توماس أوجدن: