الرئيسيةاخبارالبرد وسنينه… حين ينتصر الفيروس وتنتصر الجدة زينب
اخبار

البرد وسنينه… حين ينتصر الفيروس وتنتصر الجدة زينب

البرد وسنينه… حين ينتصر الفيروس وتنتصر الجدة زينب

البرد وسنينه… حين ينتصر الفيروس وتنتصر الجدة زينب

بقلم مريض شفاه الله/ حسين إسماعيل

 

كان البرد هذا العام أكثر خبثًا مما توقعت، كأن الشتاء قرر أن يختبر صبري على طريقته الخاصة، فأرسل إليّ فيروسًا صغيرًا لا يُرى، لكنه يملك شجاعة جيوش كاملة، فاقتحم جسدي بلا استئذان، واستولى على أغلى ما أملك: “التركيز”. أسبوع كامل وأنا مطروح في الفراش، لا أقوى على التفكير، ولا على ترتيب جملة واحدة، وكأن خلايا المخ أعلنت الإضراب تضامنًا مع الزكام، بينما الحرارة ترتفع بكرامة وإصرار، والرعشة تتسلل مثل لص يعرف توقيت انطفاء الأنوار، والرشح يسيل بخطب طويلة لا تنتهي، حتى بدا لي أن هذا الثالوث الشرير عقد اجتماعًا طارئًا وقرر أن ينفذ انقلابًا شاملًا على حياتي                                

وبحكم أنني طبيب بشرى، حاولت أن أستخدم خبرتي العلمية أولًا، فاستدعيت المضاد الحيوي، وخافض الحرارة، وكبسولات السعال، ونقاط الأنف، وعملت لجنة أزمات فوق صدري وأنا مستلقٍ كجنرال مهزوم، لكن كل الأدوية نظرت إليّ في النهاية وقالت ببرود: “احنا عملنا اللي علينا، والباقي على البرد”، وكأن الفيروس يوزع على جسدي منشورات انتصار ويحتفل بالفعل داخل الضلوع                                                    

مرت الأيام الأولى كأن الزمن يمشي بقدمٍ مكسورة، لا طعم للنهار ولا هيئة لليل، مجرد عبور بلا معنى، ثم جاءت لحظة الاستسلام الكبير. عندها تذكرت جدتي زينب، رحمها الله، وسحرها الطبي الذي كان يهزم كل الأمراض بإيمان راسخ وأدوات بسيطة لكنها فتاكة: “باطنية العرق، وليمونتين في كوباية شاي”، ثم وصية مقدسة بعد شرب الخليط: “ما تتحركش من السرير 48 ساعة… جسمك هيولّع ويطلع اللي فيه”. 

ولأن غريزة النجاة أقوى من العلم في بعض الأوقات، نفذت الوصفة بحذافيرها، ووجدت العرق يتفجر من جسدي كأنه هروب جماعي لجنود محتلة، ومع كل قطرة أحسست أن قواي تعود، وأن التركيز يرفع رأسه من تحت الوسادة ويقول: “لسه عايش”    

                                                                         

وفي لحظة ضعف أو شجاعة – لا أعرف – تذكرت نصيحة زميلي الياباني، الذي كان يقول بثقة لا تهتز: “لو جالك برد، انساه وانزل اجرِ… امشي كتير، جسمك هيفهم”. يومها لم أرد عليه احترامًا للثقافات، لكن بعد هذه النزلة تحديدًا فهمت أن نصيحته صالحة فقط لمن لم يتذوق برد بلدنا، بردنا له شخصية وطموح وأحلام، إذا دخل جسمك لا يخرج إلا بعد ما يخلّص مذاكرة كاملة لكتاب التشريح                    

والحقيقة التي تعلمتها، وأقولها لكم بكل فلسفة وضعف في آن واحد: الفيروس إذا قرر يكمّل دورته، سيكمّلها، مهما شربت دواء ومهما تذمّرت ومهما حاولت أن تظهر أنك أقوى من الشتاء، لكنه في النهاية موسم له قوانينه، ولا شيء يهزمه هزيمة نظيفة سوى وصية جدتي زينب، التي كانت تعرف الطب الحقيقي قبل أن تُطبع أول نشرة دواء   

                                                                                 

تعافيت أخيرًا بفضل الله، وجلست أكتب هذه الكلمات كمن يعود من معركة طويلة لم ينتصر فيها لكنه خرج بحكمة , نصيحتي لكم: حين يزوركم البرد، خذوا الأمور ببساطة، اشربوا شايًا ساخنًا بليمونتين، التحفوا جيدًا، واسمحوا للعرق أن يؤدي وظيفته، ولا تصدقوا من يقول لكم “انزل اجرى”، لأنك لو نزلت تجري في عز البرد، سيجري وراك الفيروس وينطّ على كتفك ويقول: “جاي معاك… فين هنتمشى النهاردة؟”             

حفظكم الله من كل سوء، ومن كل مقالب الشتاء، ومن كل فيروس له طموح أكبر من حجمه، ولتكن رحمة الله على الجدة زينب، التي لو كانت على قيد الحياة اليوم لكانت وزارة الصحة وضعتها على رأس لجنة مكافحة نزلات البرد   البرد وسنينه… حين ينتصر الفيروس وتنتصر الجدة زينب                                                                                     

البرد وسنينه… حين ينتصر الفيروس وتنتصر الجدة زينب

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *