الشعراء و الكرم
السعيد عبدالعاطي مبارك الفايد – مصر ٠
فلا الجود يفني المال قبل فنائه ولا البخل في مال الشحيح يزيد
فلا تلتمس رزقاً بعيش مقتر لكل غد رزق يعود جديد
( كريم العرب حاتم الطائي )
٠٠٠٠٠٠
في البداية نجد أن الكريم هو الله عز وجل ، و هو اسم من أسمائه الحسنى ، و النبي محمد صلى الله عليه و سلم كان كريما معطاءً أجود من الريح المرسلة ، يعطي لا يخشى الفاقة ٠
* مع معنى الكرم :
و لو نظرنا في معنى الكرم من خلال اللغة نلاحظ أن الكرم :
من معانيه ، العطاء بسهولة و سخاء و نبل و عزّ ، والبذل عن طيب نفس ، و الكرم افي النفس من معاني التضحية والإيثار و الرحمة ٠
و هو عكس البخل و الشُّحَّ هلاك ٠
و في الحديث النبوي الشريف :
” إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه”
و الدعوة إلى إكرام الضيف علامة من الإيمان و هذه بشارة ٠
و هذا قاضي الشعراء زهير بن أبي سلمى يقول :
تراهُ إذا ما جئتَهُ مُتهلّلاً كأنّك تُعطيه الذي أنت سائلهُ !
تَقُولُ الْعَرَبُ: إِذَا سَرَّكَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى السَّخَاءِ فَانْظُرْ إِلَى هَرِمٍ أَوْ إِلَى حَاتِمٍ”.
أليس هو القائل :
أوقد فإن الليل ليلٌ قرّ .. والريح يا موقد ريحٌ صرُّ
حتى يرى نارك من يمرّ .. إن جلبت ضيفاً فأنت حرُّ ٠
نعم فالكرم من القيم الإنسانية التي تعد من المظاهر الإجتماعية ، و من ثم قد حفل بها التاريخ و من مكارم الأخلاق ، و عن سجية الكرم نجد فيض من أشعار العرب في هذا من باب المفاخرة ، و من ثم تبارى الشعراء عبر العصور ٠٠
و هذا قول أُمية بن أبي الصلت يمدح الكريم السخي عبد الله بن جدعان :
أأذكرُ شيمتي أم قد كفاني … حياؤك إن شيمتك الحياءُ
إذا أثنى عليك المرء يوماً.. كفاه من تعرضك الثناءُ ٠
و هذا قول حكيم الجاهلية زهير بن أبي سلمىٰ عن كرم هَرِم بن سِنان حين قال:
تَرَاهُ إذَا مَا جِئْتَهُ متَهَلِّلًا كَأَنَّكَ تُعطِيهِ الَّذي أَنتَ سَائِلُهْ!٠
و من ثم يقولون :
إذا أكرمت الكريم ملكته وإذا أكرمت اللئيم تمرد ٠
و يصور لنا الشاعر النابغة الذبياني الكرم في صورة فنية محسوسة تجسد هيئته و ذلك في قوله :
متى تأتِهِ تعشو إلى ضوءِ نارِهِ تجدْ خير نار عندها خير موقد ٠
و أيضا نذكر الشاعر السموأل بن عادياء مفتخراً بكرم قبيلته:
تعيِّرنا أنّا قليلٌ عدِيدُنا.. فقلتُ لها: إن الكرامَ قليلُ ٠
و نستشهد بمشهد عندما دخل سوار القاضي على عبد الله بن طاهر — صاحب خراسان — فقال: أصلح الله الأمير وأنشد:
قوم أبوهم سنان حين تنسبهم
طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم
قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا
جن إذا فزعوا إنس إذا أمنوا
مرزؤون بها ليل إذا قصدوا
محسودون على ما كان من نعم
لا ينزع الله منهم ما له حسدوا ٠
و هذا نموذج تطبقيا للكرم عند كريم العرب ( حاتم الطائي ) :
الطائي حاتم الطائي كان جواداً في الجاهلية، فقد ضُرب المثل في كرمه المُغدِق الفيّاض، فهو يذم البخل ويفتخر بكرمه بأن جعل بيته موطأ للضيوف، ويصور ذلك في شعره قائلًا: “
وإذا مابخيلُ النّاسِ هَرّت كِلابُهُ شَقَّ على الضيفَ الضعيف عَقورُها فإنّي جَبان الكلبِ بيتي مُوطِّأ أجود ُ إذا ما النفسُ شَحَّ ضَميرُها٠
كما ذكر أنّ أفضل ما قيل في الكرم هو قول حاتم الطائي: أماوي إنَّ المالَ غادٍ ورائحٌ ويبقى المالِ والأحاديثَ والذِكرُ تري أن ما أهلكتُ لم يك ُ ضرني وأنّ يدي ممابَخلتُ به صَفرُ يُذكر أن حاتم الطائي ورث الكرم من أمّه عتبة التي كانت من أسخى الناس وأقراهم، على الرغم من منع أخواتها عنها المال لمدة طويلة بسبب تبذيرها، لكنهم أرجعوه لها بعد مدة وأعطوها قطعة من الإبل.
لكن عندما جاءتها امرأة تسألها، ما لبثت إلا أن أعطتها القطعة من الإبل، ويذكر أنّ الجوع قد ألمها عندما منع أخواتها عنها المال، وعاهدت نفسها ألا تمنع المال عن سائل أبدًا.
و نستكمل مسيرة حاتم الطائي الذي يروى أنه كان إذا اشتد البرد وكلب (أي اشتدّ) الشتاء أوقد نارا في بقاع الأرض لينظر إليها المارُّ ليلا فيبادر إليها وهو القائل لغلامه يسار:
أوقد فإن الليل ليلٌ قرّ .. والريح يا موقد ريحٌ صرُّ
حتى يرى نارك من يمرّ .. إن جلبت ضيفاً فأنت حرُّ ٠
* و أخيرا في النهاية نستعرض موقفا أخر عن كرم “عبدِ اللهِ بنِ جُدْعانَ ” :
مِنَ الكُرَماءِ المشهورين في الجاهِليَّةِ: عبدُ اللهِ بنُ جُدْعانَ؛ فقد اشتَهَر بكَرَمِه وجُودِه، وسَخائِه وعطائِه.
و(كان عبدُ اللهِ بنُ جُدْعانَ من مُطعِمي قُرَيشٍ، كهاشِمِ بنِ عبدِ مَنافٍ، وهو أوَّلُ مَن عَمِلَ الفالُوذَ للضَّيفِ … وكانت له جِفانٌ يأكُلُ منها القائِمُ والرَّاكِبُ!) ٠
قَدِمَ أميَّةُ بنُ أبي الصَّلْتِ مكَّةَ على عبدِ اللهِ بنِ جُدْعانَ، فلمَّا دخل عليه قال له عبدُ اللهِ: أمرٌ ما أتى بك. فقال أميَّةُ: كِلابُ غُرَمائي قد نبحَتْني ونهشَتْني .
فقال له عبدُ اللهِ: وأنا عليَّ حُقوقٌ لزِمَتْني، فأنظِرْني قليلًا أنجُمُ ما في يدي، وقد ضَمِنتُ قَضاءَ دَينِك، ولا أسألُك عن مبلَغِه، فأقام أيامًا ثمَّ أتاه، فأنشأ يقولُ:
أأذكُرُ حاجتي أم قد كفاني
حياؤُك إنَّ شِيمتَك الحياءُ
وعِلْمُك بالأمورِ فأنتَ قَرْمٌ
لك الحَسَبُ المُهَذَّبُ والسَّناءُ
كريمٌ لا يُغَيِّرُه صباحٌ
عن الخُلُقِ الكريمِ ولا مَساءُ
تُبارِي الرِّيحَ مَكْرُمةً وجُودًا
إذا ما الكَلْبُ أجحَرَه الشِّتاءُ
إذا أثنى عليك المرءُ يومًا
كفاه مِن تعَرُّضِه الثَّناءُ
فلمَّا أنشده هذا الشِّعرَ كانت عنده قَيْنتانِ، قال:
خُذْ أيَّهما شِئتَ، فأخذ إحداهما وانصرف، فمَرَّ بمجلِسٍ من مجالسِ قُرَيشٍ، فلاموه على أخذِها، فقالوا: قد ألفَيْتَه عليلًا، فلو ردَدْتَها عليه، فإنَّه يحتاجُ إلى خِدمتِها، كان ذلك أقرَبَ لك عندَه، وأكثَرَ من كُلِّ حقٍّ ضَمِنَه، فوقع الكلامُ من أميَّةَ مَوقِعًا، فرجَع ليرُدَّها، فقال له ابنُ جُدْعانَ:
لعَلَّك إنما ترُدُّها لأنَّ قُرَيشًا لاموك على أخْذِها!
فقال: ما أخطَأْتَ يا زُهَيرُ، وأنشد:
عطاؤُك زينٌ لامرئٍ إن حبَوْتَه
بسَيبٍ وما كُلُّ العطاءِ يَزينُ ٠
و نذكر قصة سفانة ابنة حاتم الطائي :
كانت من أجود نساء العرب وأفصحهن مقالا وهي التي كانت سببا لنجاة قومها من الأسر من أيدي المسلمين أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أن عدي بن حاتم كان يعادي النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث عليا إلى طيء فهرب عدي بأهله وولده ولحق بالشام وخلف أخته سفانة فأسرتها خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما أتى بها النبي صلى الله عليه وسلم قالت: هلك الوالد وغاب الوافد فإن رأيت أن تخلي عني ولا تشمت بي أحياء العرب فإن أبي كان سيد قومه يفك العاني ويقتل الجاني، ويحفظ، الجار، ويحمي الذمار، ويفرج عن المكروب، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ويحمل الكل، ويعين على نوائب الدهر وما أتاه أحد في حاجة فرده خائبا أنا بنت حاتم الطائي فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
(يا جارية، هذه صفات المؤمنين حقا لو كان أبوك مسلما لترحمنا عليه خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق) .
وقال فيها: (ارحموا عزيزا ذل وغنيا افتقر وعالما ضاع بين جهال) ٠
فأطلقها ومن عليها بقومها، فاستأذنته في الدعاء له فأذن لها، قال لأصحابه:
(اسمعوا وعوا) فقالت: أصاب الله ببرك مواقعه ولا جعل لك إلى لئيم حاجة، ولا سلب نعمة عن كريم قوم إلا وجعلك سببا في ردها عليه ٠
هذه كانت بعض التأملات عن ظاهرة الكرم في حياة العرب استقطعتها من خلال قراءاتي المتواضعة في صورة فنية فالموضوع متشعب و طويل يحتاج إلى بسطه في حلقات تعكس ملامح رؤيته في ترابط عبر عصور الشعر العربي هكذا ٠
فالكريم قريب من الله قريب من الناس بفضل العطاء بدون مقابل دائما ٠
الشعراء و الكرم ٠٠!!
السعيد عبدالعاطي مبارك الفايد – مصر ٠