الرئيسيةمقالاتالعالم بعد العواصف الاقتصادية… إلى أين يتجه الاستثمار الدولي؟
مقالات

العالم بعد العواصف الاقتصادية… إلى أين يتجه الاستثمار الدولي؟

العالم بعد العواصف الاقتصادية… إلى أين يتجه الاستثمار الدولي؟

د. علي الدكروري

لم يكن الاقتصاد العالمي في تاريخه الحديث أكثر اضطرابًا مما هو عليه اليوم. فالعالم خرج من أزمات متلاحقة — جائحة عطّلت الإنتاج والتجارة، ثم حرب غيّرت موازين الطاقة، وتحوّلات نقدية أعادت رسم خريطة النفوذ المالي. لكن وسط هذه العواصف، ثمة حقيقة ثابتة: أن الاقتصاد لا يتوقف، بل يُعيد تشكيل نفسه باستمرار. وهنا يبرز السؤال الذي يشغل العقول: إلى أين يتجه الاستثمار الدولي في عالمٍ لم يعد له قطب واحد؟

الدولار والنظام المالي… من الهيمنة إلى التعدد

من الخطأ تصور أن عصر الدولار انتهى، لكنه بالتأكيد لم يعد عصره وحده. فالولايات المتحدة ما زالت تمتلك ثلث الناتج العالمي، وأكبر سوق رأسمال وأكثر عملة سيولة، غير أن المشهد المالي الدولي بدأ يشهد تعددًا في مراكز الثقة النقدية.

اليوم، اليوان الصيني يكتسب موضع قدم في التبادلات التجارية بين دول آسيا وإفريقيا، واليورو يستعيد توازنه بعد أزمات متتالية،
والذهب عاد ليلعب دور “الملاذ الأمن” في المحافظ الاستثمارية العالمية.

أما التحولات الكبرى فتتمثل في سعي دول كبرى — كالصين وروسيا والهند والسعودية — إلى تأسيس نظام مدفوعات موازٍ يقلّل الاعتماد على الدولار في التجارة البينية، وهو ما يُعرف حاليًا باتجاه “التحرر المالي من القطبية الواحدة”.

ومع ذلك، تبقى الحقيقة أن الدولار سيظل محورًا أساسياً في النظام المالي لعقد قادم على الأقل، لكن ضمن منظومة نقدية متعددة الأقطاب لا تهيمن فيها عملة واحدة على القرار الاقتصادي.

رؤوس الأموال تتحرك من الغرب إلى الشرق

تشير تقارير مؤسسات التمويل الدولية إلى أن تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر نحو آسيا والشرق الأوسط سجلت نموًا تجاوز 25% خلال العامين الأخيرين، في مقابل تراجعها في أوروبا وأمريكا بنسب تتراوح بين 10 و15%.

هذا التحوّل ليس مؤقتًا، بل يعكس تحوّلًا استراتيجيًا في وجهة رؤوس الأموال العالمية. فالدول التي تمتلك استقرارًا سياسيًا، وسياسات نقدية رشيدة، وبنية تحتية متطورة — أصبحت اليوم الملاذ الآمن الجديد للاستثمار العالمي.

الشرق الأوسط — وعلى رأسه مصر، السعودية، والإمارات — بدأ ينتقل من موقع “المتلقي للاستثمار” إلى موقع “المنتج والمصدّر لرأس المال” من خلال الصناديق السيادية التي تدير مئات المليارات وتستثمر عالميًا في التكنولوجيا والطاقة والبنية التحتية.

مصر… شريك فاعل في الاقتصاد العالمي الجديد

مصر ليست مجرّد دولة في هذا التغيير، بل نقطة التقاء بين القوى الاقتصادية الجديدة. موقعها الجغرافي المميز عند ملتقى القارات، وتحكمها في أهم شريان مائي في العالم — قناة السويس — يمنحها أفضلية استراتيجية لا تملكها أي دولة أخرى في المنطقة.

لكن الأهم من الجغرافيا هو الرؤية. فالدولة المصرية، بقيادة الرئيس عبدالفتاح السيسي، لم تكتفِ بالإدراك، بل تحرّكت لتتحوّل إلى مركز إقليمي حقيقي للاستثمار والتجارة.

المشروعات القومية العملاقة — من تطوير الموانئ، وشبكات الطرق، والمناطق الاقتصادية، إلى التوسع في الطاقة المتجددة والمدن الذكية — ليست مشروعات بنية تحتية فحسب، بل هي ركائز لاستدامة اقتصادية طويلة المدى.

وفي ظل الاتجاه العالمي نحو الاقتصاد الأخضر، تمتلك مصر ميزة تنافسية بفضل مشاريع الطاقة الشمسية والرياح في بنبان والزعفرانة، ما يجعلها مؤهلة لأن تكون مركزًا لتصدير الطاقة النظيفة إلى أوروبا وإفريقيا .

مصر الآن في مرحلة بناء المكانة، وليس فقط جذب الاستثمار.
فهي مرشّحة لتكون أحد المحاور الثلاثة الكبرى في الشرق الأوسط خلال السنوات المقبلة.

الشباب… صُنّاع الفرص الجديدة

دائمًا ما أقول إن “الاستثمار ليس رأس مال، بل رؤية وإرادة.”
فالشباب المصري والعربي أمام فرصة تاريخية ليكونوا جزءًا من هذه التحوّلات لا مجرد متفرجين عليها.

الاقتصاد الجديد يقوم على الفكر المبتكر لا على رأس المال فقط.
مجالات مثل التكنولوجيا المالية، والطاقة النظيفة، والمشروعات الرقمية، والذكاء الاصطناعي أصبحت المحرك الرئيسي للنمو العالمي.

ولذلك أنصح كل شاب بأن يبدأ من فكرة قابلة للتنفيذ، يدرس السوق بعمق، ويتعاون لا يتنافس، ويثق أن الفرصة تولد غالبًا من رحم الأزمة.

التحدي القادم… بين البقاء والابتكار

العالم يعيد ترتيب أوراقه، والدول تعيد صياغة استراتيجياتها.
لم يعد البقاء للأقوى، بل للأذكى والأكثر استعدادًا للمستقبل.

في هذا العصر، القدرة على التكيّف والابتكار هي السلاح الحقيقي لأي مستثمر أو دولة. المال وحده لم يعد يكفي، بل الفكر والإدارة والرؤية الواضحة.

إننا نعيش مرحلة انتقالية في التاريخ الاقتصادي الحديث،
تتراجع فيها فكرة القطب الواحد، وتُولد منظومة عالمية أكثر توازنًا وتفاعلًا.

ومصر، برؤيتها وموقعها واستقرارها السياسي، مؤهلة لأن تكون أحد أعمدة هذا النظام الاقتصادي الجديد. ولعل الرسالة الأهم التي أوجّهها اليوم هي أن الأزمات لا تهدم الأمم، بل تُعيد بناءها على أسس أقوى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *