اهم ما يميز تجربة الطفل الاولى مع العالم
بقلم/ د. حنان حسن مصطفى
ربما من أهم ما يميز تجربة الطفل الأولى مع العالم أن يجد نفسه مع أم حاضرة بصمت، تنتظر بلا تدخل، بلا اعتراض، بلا فرض، تراقب بصبر حتى ينبثق من داخله دوافعه ورغباته، حتى يبدأ هو بالحياة من ذاته، فالتجربة الإنسانية في بداياتها ليست مواجهة مباشرة مع الآخر بقدر ما هي حاجة إلى حضوره الصامت، ذاك الحضور الذي لا يطالب بشيء بل ينتظر.
وقد التقط المحلل النفسيّ توماس أوجدن هذه الفكرة العميقة في كتابه (What alive means)، حين كتب عن ما سمّاه وينكوت بـ “انتظار الموضع/الكيان Object waiting” [أيّ الاخر بالعلاقة] مشيراً إلى أهميته في بناء القدرة على أن يكون الإنسان وحده دون أن يغيب الآخر كلياً.
ينظر وينكوت هنا، من منظور مختلف، إلى دور الموضع/الكيان في القدرة على أن يكون الفرد وحده: ستتضح الآن أهمية وجود شخص متاح، حاضر، لكنه حاضر بلا مطالب. فحين يصل الدافع (Drive)، يمكن لتجربة الهوية (Id) أن تكون مثمرة، ويصبح الموضع/الكيان جزءًا من الشخص الحاضر، أو كله، أي الأم.
جزء من دور الأم في تجربة الطفل للوحدة هو أن تكون حاضرة بهدوء، بلا إزعاج، بينما تنتظر أن يصبح الطفل جاهزاً لتجربة دافعه الخاص (رغباته) تجاهها. وعندما يصبح الطفل قادراً على أن يختبر رغبته على أنها له وحده (ego‑relatedness)، ينفتح أمامه فضاء جديد تماماً من التجربة. الأم، التي كانت حاضرة بلا لفت الانتباه، بلا تطفل، تصبح الآن موضعاً لرغبة الطفل. يا لها من نعمة للطفل أن تكون والدته موجودة طوال الوقت (بصمت، بلا إزعاج) لتكتشف الآن كموضع لرغبته! […]
حين يظهر الدافع/الحافز (drive)، “يمكن أن تكون تجربة الهوية مثمرة (the id experience can be fruitful) بالنسبة للطفل. وكلمة “مثمرة” تعمل هنا كاستعارة لاشجار العنب اثناء فترة عقد الثمار، تجسيداً لإثمار طبيعي لدوافع الحياة والرغبة.
فقط في هذه الظروف يمكن للطفل أن يختبر تجربة تشعره بحقيقته. وعدد كبير من هذه التجارب يشكل أساس حياة مليئة بالواقعية بدلاً من الحياة العبثية.
القدرة على أن يكون الفرد وحده هي الأساس لقدرتنا على أن نحيا حياة نشعر فيها بأننا حقيقيين، وأن نختبر دوافعنا وحوافزنا التي تبدو حقيقية وملكاً لنا.
الشخص الذي طور القدرة على أن يكون وحده يستطيع دائماً أن يكتشف الدافع الشخصي من جديد، ويظل هذا الدافع محتفظاً بقيمته، لأن حالة الوحدة، رغم مفارقتها، دائماً تتضمن وجود شخص آخر بطريقة أو بأخرى.
الشخص القادر على أن يكون وحده (بينما هناك من هو حاضر معه) يستطيع أن “يكتشف من جديد” مراراً معنى أن تكون له حياة شخصية، أن يعيش احاسيسه ودوافعه الخاصة (رغباته الخاصة). وهذه الدوافع “لا تضيع”، لأن هناك شخصاً آخر موجوداً، ينتظر أن يكون موضعاً (Object) لتلك الدوافع والحافز للهوية حين تظهر.
وينكوت يكمل قصة القدرة على أن يكون الفرد وحده من خلال العودة إلى موضوع ناقشه سابقاً:
مع مرور الزمن، يصبح الفرد قادرًا على الاستغناء عن الحضور الفعلي للأم أو لشخصية الأم. وقد تم الإشارة إلى ذلك بمصطلحات مثل إقامة “البيئة الداخلية internal environment”
لا بد هنا من العودة إلى وينكوت. بداخلي شعور بأن الفكرة الضمنية هي أن الطفل يصل إلى مرحلة لم تعد فيها الأم الفعلية مضطرة لأن تكون حاضرة (بهدوء) معه؛ بل تصبح الأم “مُدمجة في شخصية الفرد، بحيث تتطور لديه القدرة الفعلية على أن يكون وحده” (ص. 36). ومن وجهة نظري، لا ينبغي فهم عبارة “
”القدرة الفعلية على أن يكون وحده” على أنها تعني أن الفرد تجاوز المفارقة الجوهرية لتجربة الوحدة في حضور الأم الخارجية. فالفكرة الأساسية عند وينكوت هي أن الطفل يمكن أن يكون وحده، لكنه في الوقت نفسه يشعر بوجود الأم داخلياً، حتى لو لم تكن حاضرة جسديًا. مع مرور الوقت، لم تعد الأم الفعلية مضطرة لأن تكون موجودة باستمرار؛ فخبراتها السابقة وعلاقتها بالطفل تصبح جزءًا من “البيئة الداخلية” للطفل، وهي تمثل “الشخص الآخر” أو الكيان الخارجي داخلياً. هذا يسمح للطفل بأن يعيش مفارقة القدرة على أن يكون وحده: أي الوحدة مع شعور مستمر بالأمان بوجود الآخر داخلياً.
اهم ما يميز تجربة الطفل الاولى مع العالم
بقلم/ د. حنان حسن مصطفى