حين ضاق الكون واتسعت الوحشة في صدري
نشأت البسيوني
لم يكن الضيق الذي أحمله في صدري مجرد تعب عابر ولا مجرد شعور يأتي ويرحل بل كان أشبه بفراغ يبتلع كل ما أضعه فيه فراغ لا يملأه صوت ولا يهدأ مع بكاء ولا يتلاشى حتى لو أغمضت عيني وسمحت للعالم أن يسقط خلفي كل الأشياء التي كانت تبدو كبيرة في حياتي صارت صغيرة وكل التفاصيل التي كانت تمنحني الدفء صارت باهتة حتى صرت أظن أن الكون نفسه لم يعد يتسع لخطواتي وأنني أكبر من المكان الذي كنت أحتمي به
كنت أتساءل بصوت يختنق
أين ذهب كل هذا الاتساع الذي كان في روحي
أين اختفت المساحات التي كنت أركض فيها دون أن أتعثر
كيف امتلأ صدري بوحدة لم أطلبها ولم أكن مستعدا لاستقبالها
ولم يكن لدي جواب بل كان لدي شعور واحد فقط
أن الكون ضاق وأن الوحشة اتسعت داخلي
كنت أتحرك بين الأيام كما يتحرك الغريب الذي لا يعرف إلى أين يتجه كانت الشوارع ذاتها البيوت ذاتها الوجوه ذاتها لكن قلبي كان غريبا بينهم جميعا كأنني أعيش في مدينة لا تشبهني أو كأنني أمشي في حلم لا أعرف متى ينتهي لم أعد أتمسك بشيء ولا أنتظر شيئا ولا أركض نحو شيء كل ما كنت أفعله هو أن أجر روحي جرا من يوم إلى آخر وكأنني أحمل جثماني على كتفي
كان الليل طويلا بطريقة تجعل الدقائق تتكاثر كأنها قرون وكلما حاولت أن أهرب من الظلام اكتشفت أن الظلام ليس حولي بل داخلي وأن الوحشة ليست في الغرفة بل في صدري كنت أجلس طويلا دون أن أتحدث ليس لأنني فقدت القدرة على الكلام بل لأن كل الكلمات صارت ثقيلة وكل الجمل صارت فارغة وكل الاعترافات صارت بلا معنى ماذا يمكن لإنسان منهك أن يقول وما الفائدة من الكلام حين لا يعود أحد يسمعك
كنت أظن أنني حين أفرغ حزني على الورق سأشفى لكن الورق أصبح شاهدا على الآلام فقط لا علاجا لها أصبح مرآة تعكس ما لا أريد مواجهته أصبح حدا حادا يجرحني كلما حاولت أن أكتب عليه شيئا من روحي صرت أخاف الورق بعد أن كان ملجئي وصرت أخاف الحروف بعد أن كانت سندي الوحيد
هناك لحظة في حياة كل إنسان لا يعلن وقتها أنه متعب لكنه يتصرف كأن روحه فقدت طاقتها ولا أحد يفهم ولا أحد يشعر ولا أحد يلاحظ التآكل البطيء الذي يحدث داخله كنت أصل إلى تلك اللحظة كل ليلة أخلع قلبي من صدري وأضعه أمامي وأتأمله طويلا كقطعة مكسورة لا تصلح للإصلاح أراه بلا نبض بلا دفء بلا ما كان يميزه من قبل وأقول لنفسي
هذا القلب لم يعد يشبهني
ما الذي يمكن لإنسان فقد نسخة قلبه الأولى أن يفعله
كيف يعيش بنسخة مشوهة من مشاعره
وكيف يقنع نفسه أن الحياة لا تزال تستحق
كنت أبحث في داخلي عن أي بقعة ضوء أي جزء لم تبتلعه الظلمة بعد لكنه كان بحثا يشبه البحث عن إبرة في محيط كنت أضع يدي على صدري فلا أشعر بالنبض بل أشعر بفراغ يتسع كل يوم أتساءل
هل امتلأ صدري بالوحدة أم أنني أنا من صار فارغا بشكل لا يحتمل
ولو سألتني كيف وصل الأمر إلى هنا لما عرفت فالروح لا تنكسر دفعة واحدة بل تنكسر ببطء على مراحل في لحظات صغيرة يمر بها الناس دون أن يفهموا أنها كانت قاتلة تنكسر حين تصدق كلمة كاذبة تنكسر حين تنتظر غائبا لا يعود تنكسر حين تخون من أمنت تنكسر حين تتحمل أكثر مما يلزم تنكسر حين تنسى نفسك لترضي الآخرين تنكسر حين تضع قلبك كله في يد لا تعرف قيمته ومع كل كسرة يتسع الليل ويضيق العالم وتكبر الوحشة
كل شهد انكساري لم ير شيئا لأنني كنت ماهرا في إخفاء الألم كنت أبتسم وأنا أنزف أضحك وأنا أرتجف أتكلم وأنا أختنق الناس لا يرون القلوب يرون الوجوه فقط والوجوه خادعة قادرة على التجمل حتى آخر لحظة لكنها لا تبقى قوية إلى الأبد فهناك يوم يأتي يصبح التظاهر فيه ترفا لا أشتهي فعله يوم ينكشف فيه كل شيء يوم تقول لك روحك
توقف أنا لم أعد أحتمل
وذلك اليوم جاء دون أن أستعد له
وجدتني جالسا في غرفة مظلمة دون أن أعرف متى انطفأ الضوء شعرت بأن صدري يضيق كأن جدارا يقترب من جدار آخر داخلي شعرت بأن الهواء ثقيل وأن روحي ترتجف كمن يقف على حافة هاوية كل الأشياء التي كنت أقاومها اجتمعت في لحظة واحدة وضربتني دفعة واحدة حتى ظننت أنني لن أخرج منها حيا
لكني خرجت
خرجت ممزقا لكن حيا
وهذا وحده كان بداية نجاة صغيرة
تعلمت ببطء شديد أن الكون رغم ضيقه يخفي زاوية صغيرة تتسع لقلبي مهما كان مكسورا وأن الوحشة مهما اتسعت في صدري تظل مجرد شعور لا حقيقة أبدية تعلمت أن الوجع يعلمنا ولو قسوة لكنه لا يقتلنا وأن الروح التي نجت من كل هذا الليل قادرة على أن تصنع ضوءها بنفسها ولو كان ضوءا خافتا
وربما
ربما لا يعود الكون فسيحا كما كان
وربما تظل الوحشة تسكن جزءا مني
لكنني على الأقل أدركت شيئا واحدا
أن القلب مهما ظن أنه انتهى يعيد بناء نفسه من الرماد حتى لو استغرق الأمر عمرا كاملا
حين ضاق الكون واتسعت الوحشة في صدري


