حين يفقد المجتمع روحه… لماذا أصبح الانحراف “عاديا”؟
حسام النوام
في السنوات الأخيرة، باتت حالة من الاضطراب القيمي تُخيّم على ملامح المجتمع المصري والعربي. لم يعد الأمر مجرد تجاوزات فردية أو حوادث عابرة، بل تحول إلى ظاهرة اجتماعية مقلقة: جرائم ترتكب بدم بارد، تحرش بات أكثر وقاحة، تنمّر وسخرية بلا حدود، وتراجع ملحوظ في معايير الحياء والاحترام. والسؤال الذي يُلحّ على الجميع: كيف وصلنا إلى هذه المرحلة؟
الفكرة ليست في كثرة الجرائم، بل في تحول “الاستثناء” إلى “طبيعي”، وتحول ردّ الفعل الشعبي من الصدمة إلى اللامبالاة.
المجتمع الذي انقلبت موازينه
أخطر ما أصاب المجتمع ليس زيادة الوقائع السلبية، بل تشوه منظومة الفهم.
صار المجرم يقدم أحيانا “ضحية للظروف”، بينما تلقى الملائمة على الطرف الأضعف، حتى لو كان الضحية نفسه.
انتشر خطاب يساوي بين العنف والقوة، وبين قلة الحياء والجرأة، وبين الانفلات والتحرر.
الاسوأ… أن الاحترام بات ينظر إليه باعتباره ضعفا، والحياء “عقدة”، والستر “تخلف”.
هنا لا يصبح المجتمع في حاجة إلى عقل أكثر، بل إلى روح أكثر.
قتل الضمير يسبق أي جريمة
قبل أن ترتكب جرائم الدم، وقبل أن تهتز البلاد على وقع حادث بشع، تكون هناك جريمة أخطر حدثت بالفعل: جريمة قتل العقل.
لقد تم تفريغ الضمير من محتواه، وتم تجريف المعنى الحقيقي للإنسانية.
حين يتحول التعري إلى “فن”، والسخرية إلى “تريند”، والعنف إلى “مشهد مسلٍّ”، فإن المعايير الأخلاقية تكون قد تآكلت حتى الجذور.
اليوم نجد محتوى تافها يحقق ملايين المشاهدات، بينما تضيع المنصات الجادة في زحام الضوضاء.
الأسوأ أن كل كارثة بات لها مبرر جاهز:
القاتل “كان مضغوط”…
المتحرش “كان بيمر بظروف”…
والمؤتمر “كان بهزر”…
هكذا تتآكل الحدود بين الخطأ والصواب، وبين الجريمة العذر.
صناعة جيل يعتاد القبح
هناك مشروع ضخم يمتد منذ سنوات، يعمل على إنتاج بشر منزوعي الإحساس.
جيل يشاهد الجرائم والتحرش والانتحار والعنف والسخرية يوميًا، حتى تتبلّد مشاعره ويصبح ما هو شاذّ… عاديا.
موجات من السخرية المنظمة.
محتوى تافه يغرق الوعي.
تريندات تكسر الرموز والقيم.
مشاهد يومية تقتل الرحمة في القلوب.
حتى صار الإنسان نفسه أقرب إلى “جهاز”، لا يتفاعل إلا بالضغط التمرير، دون أن يفكر أو يشعر.
لماذا أصبح صوت الحق غريبا؟
لأن المجتمع اعتاد أن يسمع ما مخدرة لا ما يوقظه.
من يقول كلمة حق يتهم بالتشدد.
ومن يدعو إلى الاحترام يوصف والرجعية.
ومن يتمسك بالقيم يتحول فجأة إلى “غريب”.
تبدلت الموازين حتى أصبح قليل الأدب هو النموذج الشائع، أضحى الاحترام بالنسبة للبعض “سلوكا غير مألوف”.
الحلول ليست في القانون وحده… بل في الإنسان نفسه
الحكومة والقوانين جزء من العلاج، لكنها تأتي بعد وقوع الجريمة.
أما الوقاية الحقيقية تنطلق من داخل كل فرد.
الحل يبدأ حين نعيد ترتيب بوصلتنا الأخلاقية:
اختر ما يدخل إلى عقلك قبل أن تشتكي من فساد المجتمع.
احترم روحك قبل أن تبحث عن احترام الآخرين.
ربّ جيلاً يعرف معنى قيمة الإنسان.
لا تضحك على البلطجة تحت شعار “كوميديا”.
لا تصفق الابتذال تحت مسمى “فن”.
لا تساوم على الحق إرضاء لتريندات عابرة.
إصلاح المجتمع لا يبدأ عند منع الجريمة، بل حين نمنع الفكرة التي تسبق الجريمة.
استعادة إنسانيتنا… الخطوة الأولى
لعل أهم ما يحتاجه المجتمع اليوم هو أن يستعيد الإنسان ذاته…
أن يعود يتأمل، ويشعر، ويفكر، ويقول ببساطة ووضوح:
“الصح صح… والغلط غلط.”
فليست الدعوة هنا هجوما على أحد، ولا تحريض ضد أحد،
بل تحذير من أن يتحول البشر إلى كائنات تتحرك بلا روح،
وتتفاعل بلا وعي،
وتعيش
بلا قيم.
إنها دعوة للتفكير… لا أكثر.
وربما تكون بداية الطريق نحو مجتمع يليق بنا جميعًا.
حين يفقد المجتمع روحه… لماذا أصبح الانحراف “عاديا”؟

