صوت المرأة في مواجهة جدار الإلغاء
كتب: منتصر صباح الحسناوي
رحلة المرأة في كسر دوائر التهميش، وانتزاع حضورها كصوت وفاعل أساسي في المجتمع.
عند النظر إلى التحوّلات التي مرّ بها العراق بعد عام 2003 ندرك أنّ ثقافة الإلغاء لم تكن بعيدةً عن أيِّ فضاءٍ عام، إذ راحت تتجلّى في المجتمع والسياسة والإعلام والفن، وكأنّها طيفٌ يرافق كلّ محاولةٍ للتغيير.
هذه الثقافة قديمةٌ في جذورها، لكنّها وجدت في المناخ الجديد أدوات أشدَّ وقعاً، إذ وفّر لها الإعلام المفتوح ومنصّات التواصل ساحةً واسعة لتكرّيسها، وسط هذا المناخ ظهرت المرأةُ العراقية على نحو لم يألفه المشهد من قبل، فصارت هدفاً مفضّلاً لهذه الثقافة، لأنّها حملت مشروعَ حضورٍ يقتحم مناطق اعتّاد الناس أن تبقى حكّراً على الرجال.
المجتمع كان الامتحان الأول، الموروث الثقيل جعل كلَّ خطوةٍ نسويةٍ نحو المجال العام محاطةً بالريبة، فالخطأ الفردي للمرأة كان يُقرأ وكأنّه شهادةٌ عامّة على صلاحيّة النساء جميعاً، بينما الرجل ظلّ يُعامل باعتباره حالة خاصة.
هذا التفاوت فرض على المرأة أن تحمل عبأين معاً: أن تُثبت كفاءتها الذاتيّة، وأن تقدّم في الوقت نفسه برهاناً على جدارة النساء جميعاً، ذلك الضغط ولّد تصميماً لا واعياً على اختراق الحواجز، فبرزت أسماء أكاديمية وباحثات في الجامعات، ونشطنَّ في منظمات المجتمع المدني، وظهرت وجوه في ساحات الاحتجاج تهتّف وتطالب بالحقوق، لتؤكد أنّ الشارع بدأ يرى نفسه بمرآة جديدة.
ولم يكن في الخيال الجمعي للعراقيين أن تصبح المرأة ضيفةً في مجالس الدواوين، تجلس في المضايّف التي طالما ارتبطت برجال العشيرة وشيوخها، لتتحدث عن مشاريعها أو لتطرح أفكاراً تثقيفيّة أو لتشارك في حلّ مشكلاتٍ اجتماعية، كان المضيف رمزاً لسلطة الذكور ومركز القرار، باباً يُفتح للحوار السياسي والعشائري، ومنبراً يُدار فيه شأن القرية أو القضاء، دخول المرأة إلى هذا الفضاء بدا في بداياته حدثاً غريباً، لكنَّ التحوّلات التي أعقبت التغيّير كسرت كثيراً من الحواجز ليكون علامةً على أنّ المجتمع بدأ يعيد تعريف فضاءاته التقليديّة.
ومن هنا تجلّت صورةٌ أخرى من صور التمكّين: أن تتحدث المرأة من قلب الموروث الذكوري نفسه، لا من هامشه، وأن تفرض حضورها بجرأةٍ تعيد تشكّيل ذاكرة المكان.
وعندما فُتحت أبواب السياسة عبر الكوتا، كان المشهد مربكاً لكثيرين ، إذ ذهبت ربعُ مقاعد البرلمان للنساء في سابقةٍ لم يعرفها العراق من قبل، خطوةٌ دستورية حملت وجهيّن متناقضيّن: عدَّها البعض نقلةً مهمة، فيما نظر إليها آخرون على أنّها “زينة ديمقراطية”.
كثير من الجلسات تحوّلت إلى مساحة للاستخفاف من كثرة الوجوه النسائية، لكنّ عدداً من النائبات أحسنَّ استثمار اللحظة فأثبتنَّ أنّ الكوتا يمكن أن تكون أداةً فاعلةً لا مجرّد نصٍّ. ورغم أنّ بعضَهنَّ تمكّنَّ من التأثير في لجانٍ مهمة، إلّا أنَّ البنية الحزبية بقيت عصيّة، إذ تعاملت القوى السياسية مع النساء كواجهةٍ انتخابية أكثر من كونهنَّ شريكاتٍ في صناعة القرار.
أمّا الإعلام والفضاء الرقمي فقد فتحا ساحة مواجهةٍ لا ترحم، الكاميرا تلتقط زلّة لفظيّة لتتحول إلى نكتةٍ شعبية، ولباسٌ يثير نقاشاً طويلاً، ونبرةُ صوتٍ تصبح مادةً لتأويل الشخصية.
الهجوم يمكن أن يَطال الأفكار ويمتّد إلى التفاصيل الشخصية، ومع ذلك، استطاعت بعض النساء أن يقلبنَّ هذه المواجهة لمصلحتهنَّ، فحوّلن السخرية إلى وسيلة انتشار، وبنينَ صورةً أكثر صلابة، حتى أصبحنَ يمتلكن جمهوراً واسعاً، هذه المفارقة جعلت الفضاء الرقمي مكاناً للإلغاء والتمكّين في وقتٍ واحد.
ولم يكن الحقل الثقافي والفني بعيداً عن هذه المواجهة، الكاتبة تُحاكم على هويتها قبل نصِّها، والشاعرة يُقاس شِعرُها من زاوية كونها امرأة، والفنانة تعيش بين إعجاب معلن واستهجان مكتوم، غير أنّ العَقدين الأخيرين أفرزا أسماءً يصعب تجاوزها، نساءٌ كتبنَ وأبدعنَ ورسّخنَ حضوراً يتجاوز حدود العراق إلى فضاء أوسع، ليؤكدنَ أنّ الكلمة والفن لا يخضعان لسلطة الإلغاء، وهنا بدا أنّ أثر التجربة الثقافية أكثر رسوخاً من غيرها، لأنّها تسكن الذاكرة الجمعية وتظلُّ حاضرةً حتى بعد أن تنطفئ ضوضاء السياسة.
هكذا تكشف تجربة المرأة العراقية بعد التغيير أنّها لم تكن ضحيّة صامتة، لقد وُجِّهت إليها سهام التشكّيك والسخرية والتهميّش في المجتمع والسياسة والإعلام والثقافة، لكنّها استطاعت أن تجعل من هذه المواجهة فرصة لإثبات الذات، الحاجةُ اليوم ماسّة إلى قراءةٍ جديدة لهذه التجربة، قراءةٍ ترى المرأة شريكاً في صناعة المستقبل لا مجرّد رقمٍ في الكوتا أو واجهة انتخابية، الإصلاح المطلوب يبدأ من مَنحِ النساء مواقعَ قرارٍ حقيقية، ويمتّد إلى الإعلام الذي يجب أن يُراقَب خطابه لئلا يتحوّل إلى منبرٍ للتنميط، ويتعزّز ببرامج جامعيّة ومجتمعيّة تفتح أمام النساء أبواباً أوسعَ للمشاركة.
إنّ العراق الذي يطمح إلى النهوض لا يمكن أن يكتفي بنصف طاقته، صوتُ النساءِ ركنٌ أصيل من أركان البناء الوطني، ومستقبل هذا البلد لا يُكتب من دون توقيّع النساء إلى جانب الرجال.