قصة قصيرة المارق
احمرت شمس الهجير ملقية بوهجها الحارق على الأجساد المعلقة على جذوع النخل مؤدية دورها بإتقان في صبغ لون من ألوان العذاب الذي حكم به على هذه الأنفس التي اختارت الخروج من الصف ملقية مكانتهم العلية بين الناس تحت أقدامهم.
فتح كبيرهم عينيه عن بصر مشوش يتبين خيالات رفاقه المثبتين منذ ثلاثة أيام واسفل منهم العيون التي تنوعت نظراتها بين شفقة وشماته، تلك التي كانت تحفهم بالأمس القريب بدموع الخوف والرجاء والطمع.
الألم الذي لا يسكن يسري بين ذرات جسده اليابس و تنقل أعصابه صرخاتها إليه بلا رحمة، يشعر بهوام الأرض تتقاتل على دمه المتخثر ناهلة غذائها منه بنهم شديد، حتى صوت صرخات الألم لم تجد لها طريقا تخرج من حلقه اليابس كما الأرض المشققة أمام النيل الذي لا يعطف عليها بقطرات من منه تحييها.
ظهر أمام اعينه الذابلة رفيق الدرب المظلم الذي حكم عليه بهذه الحالة لما اختار هو ورفاقه هجره والكفر به، ظهر له جسدا بلا ظل، ووجها بلا لون يرسم غضب الرب قسماته.
رأي في عينيه خليطا من نظرات الغل واللوم التي تفعل فعل السياط على الظهر، وضع يده على عينيه كما العادة عندما يريد أن يحدثه. واطلق العبارات الجارحة الي سمعه، كيف يطلب الغفران بعد أن مكن لدرب الظلمات في الأرض، وبعد ان تعاهدنا على إكمال الطريق معا، تحولت نظرته لعتاب غريب علي طبعه الذي لا يعرف الحب، فقد أحبه وهو الذي يحتقر جنسه الطيني، واعطاه مالا يحلم به بشر، لقد أعطاه سحر الألباب قبل العيون فطوعها لخدمته حتى انحنت الهامات تحت قدميه، كيف مرق عليه وخانه بهذه السهولة.
علت نظرة الفزع ذلك الوجه الشيطاني عندما اكتشف ان بصر المارق تجاوز يديه هذه المرة فلم تعد تستطيع حجبه.
فزع لعلمه بقوة ذلك النور الذي يعبر بالأبصار ولا يقوي مخلوق على اطفائه.
شرع في الرجاء الي حد التضرع كي يقول كلمة واحدة ترجعه ورفاقه الي درب الظلمات وتنقذه من الفشل الذي يشيخ له عمره الطويل، لم يعد هناك وقت، فالروح تتسلل بسلاسة صاعدة من أطراف الأقدام، أقسم له باغلظ الإيمان ان يخلصه من عذابه، ان يجعله اله يعبد وتقام له المحاريب والتماثيل، أن تذل الرقاب تحت قدميه مقابل كلمة واحدة.
أقسم واقسم لاذن لم تعد تسمعه، وعين لم تعد تراه، وقلب تسكر بابه في وجهه.
أقسم لجسد فارقته الروح منتشية في رحاب الملكوت صاعدة للقاء العظيم الذي لعنه من رحمته التي وسعت كل شئ.
لم يكن قيظ الشمس ما لفح وجوه الناس في ذلك الوقت، لقد كانت لفحات الغضب المنبعث من ذلك القلب الأسود.
نظر إلى نبي الله الواقف شامخا بين قومه، انطلق العزم على الانتقام من بين عينيه.
واحدة بواحدة، لقد جعل رفيق دربه الذي تحرك قلبه الملعون له يمرق مع إخوانه عن الدرب.
ليردنها إليه في قومه، ليعلمنهم ألوانها أخرى من السحر الذي يملأ هذا الدرب بجنس آدم حتى يكونوا حجارة من حجارته.
ان كانت عصا موسى قد أخرجت السحرة من الدرب، فسوف يعطيهم عصي أخرى أشد سحرا.
إنه المال، اصابعه التي يحرك بها القلوب ويسكنها في الدرب الي نهاية الزمان.
الكاتب
محمد_الدولتلي
إهداء للروائي الساحر محي حافظ
مقتبسة من ملحمتة مأساة إبليس
خاص جريدة موطني الورقية قصة قصيرة المارق