الرئيسيةمقالاتكن بلسَمًا فالجارحون كُثُر
مقالات

كن بلسَمًا فالجارحون كُثُر

كن بلسَمًا فالجارحون كُثُر

كن بلسَمًا فالجارحون كُثُر

بقلم الكاتبة : سلوى عبد الكريم

 

قالوا: فاقدُ الشيء لا يُعطيه، قالوها وكأنها حقيقةٌ مُطلقة لا تقبل النقاش. لكنهم لم يعرفوا الفقد، ولم يدركوا كيف يتحوّل الحرمان إلى وعي، وكيف تصير الجراح مدرسةً خفيّة تُعلِّم القلب كيف يُنقذ غيره،حتى وهو ينزف.

 

قالوها وكذبوا. فاقدُ الشيء يُعطي بلا حدود،لأنه وحده يدرك قسوة الفقد،ويدرك تمامًا كيف ينهش الحرمانُ النفسَ 

حين تُسلب ما تشتهي. فاقدُ الشيء لا يُمسك به، بل يُنفقه بسخاء، لأنه وحده يعلم أن أقسى ما في الفقد

 

ليس غياب الشيء،بل الشعور الذي يُنتزع من الروح معه،ذلك الفراغ البارد الذي لا يملؤه إلا من ذاقه. نعم،لم يعلموا أن هناك من يُعطون غيرهم كلَّ ما تمنّوا يومًا أن يحظوا به.فيمنحون الحبَّ بلا مقابل، وهم أصحاب القلوب الجريحة، المثقَلة بالندوب. ويزرعون الطمأنينة في النفوس، وهم يرتجفون لم يعرفوا يومًا كيف يهدأ الخوف في صدورهم.

 

لم يعلموا أن هناك من يُمهِّدون طرقاتِ الأمنِ والسكينة لمن ضلّوا الطريق، وهم التائهون بين مفترقات الدروب، 

لا لافتات فيها.يدلّون غيرهم على النجاة، ويتعلّمون وحدهم كيف يُكملون السير بلا دليل. هناك من يبعثون الدفءَ في قلوبٍ أنهكها البرد، ويرتجفون هم بصمت. يشعلون للآخرين مواقدهم، ويعودون إلى ليلٍ بلا نار.

 

يمنحون الأمانَ والهدوء لمن حولهم. ولم يكونوا يومًا عبئًا، ولا ضجيجًا، ولا خوفًا يُكدّر صفو أحد، بل كانوا دائمًا المساحة الهادئة التي يطمئنّون لوجودها دون أن يلتفتوا إليها. حتى صاروا جدارًا يستندون إليه، ولا يسألون إن كان متصدّعًا من الداخل.

 

هناك من يُقدّمون المشورة لا بوصفها وصاية، بل نورًا يُرى ولا يُفرض، ويُقدّمون النصيحة دون إلزامٍ بالتنفيذ، إيمانًا بأن لكلٍّ حقَّ التصرّف فيما يخصّه، بينما كانوا يحلمون فقط

أن يمتلكوا حقَّ القرار في شأنٍ يخصّهم. هناك من منحوا الاستقلالية لمن حولهم واحترموا اختلافهم وآراءهم حتى حين خالفوهم وطالما تمنّوا أن يعيشوا هذا المعنى دون أن يُقصَوا فلم يجدوا منه إلا اسمه.

 

وهناك من يمنحون غيرهم حريةَ التعبير والرأي،

دون تعصّبٍ أو رفض، رغم أنهم كثيرًا ما حُرموا منها؛ لأنهم يعلمون أن القمع لا يُنتج وعيًا، وأن الصوت المكتوم إمّا أن ينفجر أو ينطفئ. هناك من يربتون على قلق الآخرين، ويُخفون ارتجاف أيديهم، كأن الأمان خُلِق ليمرّ من خلالهم لا ليقيم بهم.

 

نعم، هناك من يمنحون فيضَ المشاعر: حبًّا، ودفئًا، وحنانًا، ورحمةً، وسلامًا. فالقلب الذي ذاق القسوة إمّا أن يتحوّل حجرًا، أو يصير ألين من الدعاء. وهكذا صاروا فاقدي الشيء، الذين أعطوه بسخاء، لا ضعفًا، بل فهمًا، ولا انكسارًا، بل وعيًا.

كن بلسَمًا فالجارحون كُثُر

فإن مررتَ بهم يومًا، ورأيتَ قلوبهم مفتوحةً رغم شقوقها، فاعلم أن بعض الجراح لا تكسر أصحابها، بل تُحوِّلهم إلى

بلسمٍ يمشي على الأرض.

كن بلسَمًا فالجارحون كُثُر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *