منع الصحافة الدولية من دخول غزة: سياسة ممنهجة لتجنب “تسونامي” الرأي العام
بقلم : نبيل أبوالياسين
إن منع الصحافيين وفزاعة السامية لم تعد تكفي لستر عورة الاستيطان وإخفاء جريمة الإبادة. وفي اختبارٍ مصيري لضمير الإعلام العالمي وحقوق الإنسان، لا تزال سلطات الاحتلال الإسرائيلي تفرض أطول وأقسى حصار إعلامي في تاريخ الحروب الحديثة على قطاع غزة، مانعةً الصحفيين الدوليين من دخوله لأكثر من ثلاثة أشهر بعد وقف إطلاق النار المزعوم. هذا الحظر الممنهج، الذي وصفته جمعية الصحافة الأجنبية في إسرائيل بأنه “أبعد من العبث”، يهدف إلى طمس معالم “متاهة الموت” التي يعيشها الفلسطينيون تحت وطأة القصف والتهجير، بينما تواصل الحكومة الإسرائيلية التوسع في بناء المستوطنات غير القانونية، مستخدمةً اتهامات “معاداة السامية” سلاحاً لترهيب منتقديها وإسكات صوت الحق. إنه مشهدٌ مركّب لإبادة الحقيقة على الأرض، وإبادة الحق في الأرض تحت ستار زائف.
غزة: متاهة الموت تحت حصار العدسات الدولية
على الرغم من مرور أكثر من شهرين على وقف إطلاق النار، لا يزال الصحفيون الأجانب محظورين من دخول قطاع غزة، في سابقة هي الأخطر من نوعها. لقد وضع هذا الحظر عبء تغطية الحرب بأكملها على عاتق الصحفيين الفلسطينيين، الذين دفعوا ثمناً باهظاً إذ قُتل ما يقرب من 250 صحفياً خلال الصراع، كثيرون منهم بشكل متعمد وفق تحقيقات مستقلة. تكرر الشبكة العالمية “IPI” ومنظمات حرية الصحافة دعواتها لإسرائيل لرفع هذا الحظر الفوري، لكن المحكمة العليا الإسرائيلية وافقت للمرة التاسعة على تأجيل البت في الأمر. هذا المنع ليس إجراءً أمنياً عابراً، بل هو جريمة طمسٍ ممنهجة تهدف إلى دفن أدلة المعاناة اليومية بعيداً عن عين العدالة وعدسات العالم، تاركةً سكان غزة يعيشون في “متاهة لا نهاية لها من الانتظار” كما يصفونها.
اختراق الستار: قصص المعاناة من قلب المتاهة
من داخل هذا الحصار، تروي الشهادات الفلسطينية واقعاً مأساوياً يتناقض بشكل صارخ مع خطاب “وقف إطلاق النار”. يعيش الناس في منازل مدمرة معرضة للانهيار، أو مغمورين في الوحل داخل الخيام مع حلول الشتاء. الوصول إلى المياه محدود، والكهرباء والإنترنت منعدمان، والشوارع مدمرة لدرجة تجعل التنقل خطيراً. على حدود “الخط الأصفر” التي أنشأها الاحتلال حديثاً، تستمر عمليات الهدم اليومية، وتنتشر روايات عن إطلاق النار على الأطفال الذين يقتربون من هذا الخط الوهمي. المنازل تهتز باستمرار من نيران المدفعية وهجمات “الروبوتات المتفجرة”، بينما يحاول السكان إغلاق نوافذهم لحماية أنفسهم من دخان الهجمات التي يُشتبه في استخدامها للفوسفور. إنها حياة يغيب عنها تماماً الشعور بالأمان الذي يعتبره العالم الخارجي أمراً مفروغاً منه.
استغلال “معاداة السامية”: سلاح لتبرير الاستيطان غير القانوني
بالتوازي مع حجب الحقيقة في غزة، تسرع سلطات الاحتلال من وتيرة تهويد الأرض في الضفة الغربية. في مناورة خطيرة تمس جوهر العدالة وتشوّه معنى التمييز العنصري، لجأت الحكومة الإسرائيلية إلى تسييس مفهوم “معاداة السامية” وتحويله إلى أداة للابتزاز السياسي. حيث صرّح وزير خارجيتها بأن معارضة التوسع الاستيطاني غير القانوني هو شكل من أشكال معاداة السامية. هذا الادعاء لا يقلل من شأن معاناة اليهود الحقيقية من العنصرية فحسب، بل يرمي بهم جميعاً تحت عجلات مشروع استيطاني يستولي على الأراضي الفلسطينية بوحشية، مخالفاً صراحة للمادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر نقل سكان الدولة المحتلة إلى الأرض المحتلة. إنه محاولة لتحويل “البلطجة إلى قانون، والاستيطان إلى حق” كما وصفه ناشطون.
صمت دولي مشين ومسؤولية إعلامية ملحة
يبرز هذا المشهد المرعب أخفاقاً ذريعاً للمنظومة الدولية وهيئات الأمم المتحدة، التي وقفت متفرجة على “العجز المصطنع” أمام انتهاك صارخ للحق في الوصول إلى المعلومات. هذا الصمت ليس قدراً محتوماً، بل هو “صمت مبرمج” يكشف زيف ادعاءات الحماية. إن المسؤولية المهنية والأخلاقية تضع النقابات الصحفية العالمية، مثل الاتحاد الدولي للصحفيين “IFJ”، في اختبار مصداقية حاسم. لقد حان الوقت للانتقال من بيانات الاستنكار إلى “التقاضي الاستراتيجي”، كمقاضاة مسؤولين عسكريين وسياسيين أمام محاكم وطنية في دول تطبق مبدأ “الولاية القضائية العالمية” على جرائم الحرب؛ ورفع دعاوى قضائية ضد سلطات الاحتلال بتهمة استهداف الصحفيين، وفرض مقاطعة مهنية شاملة
. يجب على منظمات مثل اليونسكو تفعيل آليات الحماية الميدانية للصحفيين، والسعي لقرار أممي تحت الفصل السابع لفرض فتح المعابر، باعتبار أن إخفاء الحقيقة تهديد للسلم والأمن الدوليين. بدون تحرك حازم، ستتحول هذه المؤسسات إلى ديكور بلا معنى.
وختامًا: بينما يلفظ عام 2025 أنفاسه، يبقى الفلسطيني في غزة ينتظر، ليس السلام الذي يتغنى به القادة من على منابرهم البعيدة، بل أبسط حقوق الإنسان: سقفاً آمناً، وماءً نظيفاً، ولقاءً بمن يحب. إن الحقيقة التي يُحاول دفنها تحت الركام في غزة وتحت خطاب مُزوّر في الضفة هي نفسها: مشروع استبدال يتآمر على الأرض والإنسان والعدالة. أمام هذا المشهد، فإن صمت الإعلام الدولي ونقاباته هو تواطؤ. إذا لم تتحرك الضمائر اليوم لوقف استباحة السيادة والحقيقة، فمتى ستتحرك؟ لقد سقطت أدوات العدالة الدولية، وتسقط الآن مصداقية الإعلام العالمي. أما الأمل الوحيد المتبقي، فهو ذلك الذي يحمله الفلسطينيون، كما المرض، في قلوبهم النازفة، رغم كل شيء.

