الرئيسيةاخبارإنذار أحمر على ضفاف النيل: سد النهضة بين المخاطر الجيولوجية ورفض الإدارة الأحادية
اخبار

إنذار أحمر على ضفاف النيل: سد النهضة بين المخاطر الجيولوجية ورفض الإدارة الأحادية

إنذار أحمر على ضفاف النيل: سد النهضة بين المخاطر الجيولوجية ورفض الإدارة الأحادية

بقلم: محمد عربي نصار

 

في لحظة حرجة من تاريخ نهر النيل، دوّت صفارات الإنذار في السودان لتعلن حالة تأهب قصوى. فقد تجاوزت تدفقات النيل الأزرق نحو 730 مليون متر مكعب يوميًا لأيام متتالية، فيما تسابقت السدود السودانية – من الروصيرص إلى سنار ومروي – لتصريف مئات الملايين من الأمتار المكعبة يوميًا، في مشهد وصفه الخبراء بأنه “غير مسبوق” منذ بدء ملء بحيرة سد النهضة الإثيوبي. هذه الكميات الهائلة من المياه، التي تدفقت فجأة من السد الإثيوبي، وضعت السودان في مواجهة خطر فيضان يهدد مدنه وقراه، بينما تراقب مصر المشهد بقلق شديد ولكن بقدرة أكبر على استيعاب المفاجآت بفضل السد العالي.

 

سد على أرض البراكين

 

يقع سد النهضة في إقليم بني شنقول–قمز، على بعد 15 كيلومترًا فقط من الحدود السودانية، في قلب الهضبة الإثيوبية التي تتألف من صخور بازلتية بركانية قديمة تغطيها طبقات رسوبية أقدم. هذه الطبيعة الجيولوجية الصلبة نسبيًا تخفي في أعماقها فوالق وشقوقًا تجعلها عرضة لتسرب المياه أو لانزلاقات أرضية إذا ارتفعت الضغوط المائية أو حدثت هزات زلزالية متوسطة. المنطقة نفسها تقع ضمن حزام الصدع الشرقي الأفريقي، حيث تسجل الزلازل عادة بين درجتين وخمس درجات على مقياس ريختر، وهي بيئة قد تشهد ما يعرف بـ“الزلازل المستحثة بالخزان” عند امتلاء بحيرة السد.

 

الهياكل الهندسية للسد تبدو مهيبة: سد ركامي بلبٍّ خرساني بارتفاع 145 مترًا وطول يقارب 1.8 كم، يحجز خلفه بحيرة تصل سعتها إلى 74 مليار متر مكعب، أي ما يعادل مرة ونصف سعة بحيرة ناصر في مصر، ويهدف لإنتاج نحو 6.45 جيجاوات من الكهرباء. لكن ضخامة المشروع تجعل أي خلل محتمل حدثًا كارثيًا على مستوى إقليمي.

 

سيناريوهات الكارثة: من فيضان محلي إلى انهيار شامل

 

احتمال الانهيار الكامل ضعيف إذا جرى تشغيل السد وصيانته وفق المعايير الدولية، لكن السيناريوهات التي يضعها علماء الجيولوجيا تبقى مقلقة:

 

انهيار جزئي: تصدع في أحد الجوانب يؤدي إلى إطلاق مفاجئ لمليارات الأمتار المكعبة. ستكون مدن الروصيرص وسنار والخرطوم أولى الضحايا، مع احتمال تتابع انهيارات في السدود السودانية.

 

انهيار كامل: تفريغ مفاجئ لما يصل إلى 70 مليار متر مكعب من المياه خلال أيام أو ساعات، محدثًا موجة فيضانية بارتفاع عشرات الأمتار تجتاح السودان وصولًا إلى بحيرة ناصر في مصر. ورغم قدرة السد العالي على استيعاب جزء كبير من المياه، فإن مناطق النوبة المنخفضة قد تتعرض لغرق واسع، فيما تتضرر الأراضي الزراعية والبنية التحتية في مسار النهر.

 

هذه السيناريوهات تحمل آثارًا بيئية مدمرة: انجراف التربة، تدمير النظم البيئية النهرية، انتشار أمراض منقولة بالمياه، وخسائر اقتصادية بمليارات الدولارات، فضلًا عن نزوح جماعي وأزمات إنسانية.

 

إنذار السودان وقلق مصر

 

صفارات الإنذار الحمراء التي أطلقتها وزارة الري السودانية ليست مبالغة إعلامية؛ فالتقارير الرسمية تؤكد أن معدلات التصريف من سد النهضة فاقت المعدلات الطبيعية بمئات الملايين من الأمتار المكعبة يوميًا. الخبير المائي عباس شراقي حذر من أن هذه التصريفات قد تُحدث فيضانًا صريحًا في الخرطوم، بينما أوضح الخبير نادر نور الدين أن إثيوبيا ارتكبت خطأً بتخزين كميات ضخمة ثم تصريفها فجأة رغم أن التوربينات لم تعمل بكامل طاقتها بعد.

 

أما مصر، فتمتلك ورقة قوة متمثلة في السد العالي وبحيرة ناصر، اللذين يمكنهما امتصاص كميات كبيرة من المياه المتدفقة. غير أن الاطمئنان الكامل غير ممكن؛ فاستمرار التصريفات غير المنسقة يهدد إدارة الموارد المائية المصرية على المدى الطويل ويجعل التخطيط الزراعي والمائي رهينة قرارات أحادية من أديس أبابا.

 

رفض مصري ثابت للإدارة الأحادية

 

منذ توقيع اتفاق المبادئ عام 2015، الذي ينص صراحة على التعاون وتبادل المعلومات في الملء والتشغيل، تتمسك القاهرة بمطلب أساسي: اتفاق قانوني ملزم. وترى مصر أن تصرف إثيوبيا منفردة يخالف مبدأ “عدم التسبب بضرر جسيم” الوارد في اتفاقية الأمم المتحدة للمجاري المائية لعام 1997، ويمنح أديس أبابا قدرة على استخدام السد كورقة ضغط سياسي تهدد الأمن القومي المائي والغذائي لنحو مئة مليون مصري.

 

الهواجس المصرية ليست تقنية فقط؛ فغياب آلية ملزمة لتبادل البيانات اليومية يجعل أي طارئ – من فيضان مفاجئ إلى زلزال مستحث – حدثًا يصعب التنبؤ به أو الاستعداد له في الوقت المناسب. بالنسبة للقاهرة، لا يمكن القبول بأن تتحكم دولة المنبع وحدها في شريان الحياة لمصر والسودان.

 

خاتمة

 

سد النهضة مشروع هندسي وجيولوجي عملاق يحمل وعود التنمية لإثيوبيا، لكنه في الوقت نفسه يختزن مخاطر جسيمة إذا أُدير دون تنسيق. الإنذار الأحمر الذي دوى في السودان هو جرس إنذار للمنطقة بأسرها: فالنيل ليس ملكًا لطرف واحد، وأي إدارة أحادية قد تحول “نهر الحياة” إلى مصدر تهديد وجودي. وحده اتفاق شامل وملزم، قائم على العلم والشفافية، يمكنه أن يحوّل هذا السد من قنبلة مائية موقوتة إلى أداة تعاون وتنمية مستدامة بين شعوب وادي النيل.

إنذار أحمر على ضفاف النيل: سد النهضة بين المخاطر الجيولوجية ورفض الإدارة الأحادية

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *