من هنا نبدأ ..

🌐 الإدمان وفقدان التوازن في زمن الضغوط والتقنية
✍️ بقلم: د. مدحت يوسف
📅 6 نوفمبر 2025
في وسط الزخم الهائل للعصر الحديث، وبين تسارع الأحداث وتزايد الضغوط النفسية والاجتماعية، أصبح الإنسان محاصرًا بسيلٍ من المؤثرات والمغريات اليومية التي تستهدف حواسه وعقله في آن واحد. فالتطور التكنولوجي المذهل، والانفتاح الإعلامي الواسع، وتعدد مصادر التوتر في الحياة العملية والأسرية، جعلت العقل البشري في حالة بحث دائم عن متنفسٍ للهروب من الضغط أو عن شعورٍ سريعٍ بالراحة. ومن هنا، بدأت ملامح الإدمان المعاصر تتشكل في صمتٍ داخل تفاصيل الحياة اليومية، حتى غدت عادة مألوفة يصعب الانتباه إلى خطورتها.
الإدمان في جوهره خروج عن التوازن الذي يمثل أساس استقرار النفس وسلامة السلوك. إنه تجاوز لحدّ الاعتدال الطبيعي الذي يفصل بين الاستخدام الواعي والاعتماد القهري. فعندما يفقد الإنسان قدرته على التحكم في سلوكه تجاه مادة أو نشاط معين، ويتحول هذا السلوك من خيارٍ إرادي إلى حاجةٍ قهرية رغم إدراكه لأضراره، يصبح هنا أسيرًا لفقدان الاتزان بين العقل والرغبة. فالإدمان ليس مجرد ضعف إرادة كما يُعتقد، بل هو اضطراب في دوائر الدماغ العصبية المسؤولة عن التحفيز والمكافأة، إذ تُفرز مادة الدوبامين بشكلٍ مفرط عند ممارسة السلوك الإدماني، فيشعر الشخص بمتعة مؤقتة تتبعها حاجة دائمة لتكرار الفعل نفسه بحثًا عن الشعور ذاته.
لقد اتسع مفهوم الإدمان اليوم ليشمل كل ما يُمارس بإفراطٍ ويتجاوز حدّ الاعتدال. فليس المقصود به فقط المخدرات أو الكحول أو التدخين، بل يمتد ليشمل أنماطًا من السلوك البشري الطبيعي حين يفقد توازنه. فالإفراط في العمل، أو الأكل، أو التسوق، أو ممارسة الألعاب الإلكترونية، أو حتى الانشغال المفرط بالهاتف ومواقع التواصل الاجتماعي، كلها صور من الإدمان الحديث الذي يسلب الإنسان حريته تدريجيًا دون أن يشعر. إن الخطر الحقيقي يكمن في أن هذا الإدمان لا يُرى بالعين المجردة، لكنه يغيّر بنية التفكير ويؤثر في الانفعالات والقرارات والعلاقات الإنسانية.
وفي زمنٍ باتت فيه التقنية تحكم إيقاع الحياة، ظهر ما يسمى بـ الإدمان الرقمي، وهو من أكثر أنواع الإدمان انتشارًا وتأثيرًا، خاصة بين فئة الشباب والمراهقين. فوسائل التواصل الاجتماعي صُممت لتستحوذ على انتباه الإنسان بأطول مدة ممكنة، عبر تدفقٍ مستمرٍ من الإشعارات والمحتوى البصري الجاذب. ومع مرور الوقت، تتشكل لدى المستخدم حالة من التعلق النفسي القهري، تجعله يعيش في توترٍ دائم إذا انقطع عن جهازه، ويجد صعوبة في التركيز أو التواصل الواقعي. وهنا، يتحول العالم الافتراضي إلى بديلٍ عن الواقع، وتبدأ فجوة الخطر في الاتساع بين الإنسان وذاته.
إن مواجهة الإدمان، أياً كان شكله، تبدأ من إدراك أن فقدان التوازن هو أصل المشكلة. فالحل لا يكمن في المنع أو الانعزال، بل في استعادة القدرة على التنظيم والاعتدال. ويمكن تحقيق ذلك عبر وضع حدود زمنية لاستخدام الأجهزة الرقمية، وممارسة الأنشطة الواقعية التي تغذي الجسد والعقل، وبناء علاقات إنسانية حقيقية تمنح الشعور بالانتماء والدعم النفسي. كما أن للأسرة والمدرسة دورًا محوريًا في غرس الوعي الرقمي منذ الصغر، من خلال تعليم الأبناء أن الحرية في العالم الحديث لا تعني الانغماس، بل امتلاك القدرة على التوقف متى شاءوا.
وفي الحالات المتقدمة، تبرز أهمية العلاج السلوكي المعرفي تحت إشراف متخصصين لإعادة بناء أنماط التفكير وضبط السلوك الإدماني. فالعلاج لا يهدف فقط إلى الامتناع عن الفعل، بل إلى إعادة التوازن بين الرغبة والوعي، بين المتعة والمسؤولية، وبين الحرية والضبط الذاتي.
إن الإدمان في نهاية الأمر ليس في الشيء الذي نستخدمه، بل في الطريقة التي نستخدمه بها. وكلما فقد الإنسان توازنه في التعامل مع ما حوله، فقد جزءًا من إنسانيته. وفي زمنٍ تتضاعف فيه الضغوط وتغيب فيه فترات الهدوء، تبقى القدرة على الاعتدال هي أرقى صور القوة البشرية، لأن الإنسان المتزن هو من يملك نفسه أمام ما يملك، ويقود رغبته بعقله لا بعاداته.
@topfans
خطى الوعي
DrEng Medhat Youssef Moischool
من هنا نبدأ ..
🌐 الإدمان وفقدان التوازن في زمن الضغوط والتقنية
✍️ بقلم: د. مدحت يوسف
📅 6 نوفمبر 2025
في وسط الزخم الهائل للعصر الحديث، وبين تسارع الأحداث وتزايد الضغوط النفسية والاجتماعية، أصبح الإنسان محاصرًا بسيلٍ من المؤثرات والمغريات اليومية التي تستهدف حواسه وعقله في آن واحد. فالتطور التكنولوجي المذهل، والانفتاح الإعلامي الواسع، وتعدد مصادر التوتر في الحياة العملية والأسرية، جعلت العقل البشري في حالة بحث دائم عن متنفسٍ للهروب من الضغط أو عن شعورٍ سريعٍ بالراحة. ومن هنا، بدأت ملامح الإدمان المعاصر تتشكل في صمتٍ داخل تفاصيل الحياة اليومية، حتى غدت عادة مألوفة يصعب الانتباه إلى خطورتها.
الإدمان في جوهره خروج عن التوازن الذي يمثل أساس استقرار النفس وسلامة السلوك. إنه تجاوز لحدّ الاعتدال الطبيعي الذي يفصل بين الاستخدام الواعي والاعتماد القهري. فعندما يفقد الإنسان قدرته على التحكم في سلوكه تجاه مادة أو نشاط معين، ويتحول هذا السلوك من خيارٍ إرادي إلى حاجةٍ قهرية رغم إدراكه لأضراره، يصبح هنا أسيرًا لفقدان الاتزان بين العقل والرغبة. فالإدمان ليس مجرد ضعف إرادة كما يُعتقد، بل هو اضطراب في دوائر الدماغ العصبية المسؤولة عن التحفيز والمكافأة، إذ تُفرز مادة الدوبامين بشكلٍ مفرط عند ممارسة السلوك الإدماني، فيشعر الشخص بمتعة مؤقتة تتبعها حاجة دائمة لتكرار الفعل نفسه بحثًا عن الشعور ذاته.
لقد اتسع مفهوم الإدمان اليوم ليشمل كل ما يُمارس بإفراطٍ ويتجاوز حدّ الاعتدال. فليس المقصود به فقط المخدرات أو الكحول أو التدخين، بل يمتد ليشمل أنماطًا من السلوك البشري الطبيعي حين يفقد توازنه. فالإفراط في العمل، أو الأكل، أو التسوق، أو ممارسة الألعاب الإلكترونية، أو حتى الانشغال المفرط بالهاتف ومواقع التواصل الاجتماعي، كلها صور من الإدمان الحديث الذي يسلب الإنسان حريته تدريجيًا دون أن يشعر. إن الخطر الحقيقي يكمن في أن هذا الإدمان لا يُرى بالعين المجردة، لكنه يغيّر بنية التفكير ويؤثر في الانفعالات والقرارات والعلاقات الإنسانية.
وفي زمنٍ باتت فيه التقنية تحكم إيقاع الحياة، ظهر ما يسمى بـ الإدمان الرقمي، وهو من أكثر أنواع الإدمان انتشارًا وتأثيرًا، خاصة بين فئة الشباب والمراهقين. فوسائل التواصل الاجتماعي صُممت لتستحوذ على انتباه الإنسان بأطول مدة ممكنة، عبر تدفقٍ مستمرٍ من الإشعارات والمحتوى البصري الجاذب. ومع مرور الوقت، تتشكل لدى المستخدم حالة من التعلق النفسي القهري، تجعله يعيش في توترٍ دائم إذا انقطع عن جهازه، ويجد صعوبة في التركيز أو التواصل الواقعي. وهنا، يتحول العالم الافتراضي إلى بديلٍ عن الواقع، وتبدأ فجوة الخطر في الاتساع بين الإنسان وذاته.
إن مواجهة الإدمان، أياً كان شكله، تبدأ من إدراك أن فقدان التوازن هو أصل المشكلة. فالحل لا يكمن في المنع أو الانعزال، بل في استعادة القدرة على التنظيم والاعتدال. ويمكن تحقيق ذلك عبر وضع حدود زمنية لاستخدام الأجهزة الرقمية، وممارسة الأنشطة الواقعية التي تغذي الجسد والعقل، وبناء علاقات إنسانية حقيقية تمنح الشعور بالانتماء والدعم النفسي. كما أن للأسرة والمدرسة دورًا محوريًا في غرس الوعي الرقمي منذ الصغر، من خلال تعليم الأبناء أن الحرية في العالم الحديث لا تعني الانغماس، بل امتلاك القدرة على التوقف متى شاءوا.
وفي الحالات المتقدمة، تبرز أهمية العلاج السلوكي المعرفي تحت إشراف متخصصين لإعادة بناء أنماط التفكير وضبط السلوك الإدماني. فالعلاج لا يهدف فقط إلى الامتناع عن الفعل، بل إلى إعادة التوازن بين الرغبة والوعي، بين المتعة والمسؤولية، وبين الحرية والضبط الذاتي.
إن الإدمان في نهاية الأمر ليس في الشيء الذي نستخدمه، بل في الطريقة التي نستخدمه بها. وكلما فقد الإنسان توازنه في التعامل مع ما حوله، فقد جزءًا من إنسانيته. وفي زمنٍ تتضاعف فيه الضغوط وتغيب فيه فترات الهدوء، تبقى القدرة على الاعتدال هي أرقى صور القوة البشرية، لأن الإنسان المتزن هو من يملك نفسه أمام ما يملك، ويقود رغبته بعقله لا بعاداته.
@topfans
خطى الوعي
DrEng Medhat Youssef Moischool

