الدكروري يكتب عن كفى بالله شهيدا
الدكروري يكتب عن كفى بالله شهيدا
بقلم / محمـــد الدكـــروري
إن الدار الآخرة هي دار الجزاء وتوفية الحقوق واسترداد المظالم، وهي مرصد المفاليس، حين يقدمون بجلل من الصالحات، من صلاة، وصيام، وزكاة، وغيرها مما هو دونها في الفضل، في يومٍ تشح النفوس بالحسنة وإن كانت أما، فيرون ثواب تلك القربات ترحل من سجل حسناتهم إلى صحف من ظلموهم وبخسوهم حقهم، فيذكر النصب الذي بذله والوقت الذي كابده والمال الذي أنفقه ومفارقته اللذائذ لأجل عمل تلك الصالحات، وبات ينتظر ثوابها في يوم تعز فيه الحسنة، ويراها بحسرة المرائر قد ذهبت لغيره بسبب ظلمه له، وتزداد تلك الحسرة إن فنيت حسناته، فتنقل سيئات المظلوم إلى صحيفته مع عدم مباشرته لهاز
فيحاسب عليها كما لو كان عاملاً لها وتزداد تلك الحسرة حسرات حين تفنى الحسنات وتبقى السيئات فيؤمر به إلى النار، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس إلى أصحابه ويبين لهم الحقائق، ويصحح لهم المفاهيم، ويلفت انتباههم إلى ما غاب عنهم أو التبس عليهم، وكثيرا ما كان يجلي لهم الفارق بين قوانين الدنيا وقوانين الآخرة، وبين موازين الله وموازين العباد، وعن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رجلا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، فقال ائتني بالشهداء، فقال كفى بالله شهيدا، قال فائتني بالكفيل، قال كفى بالله كفيلا، قال صدقت، فدفعها إليه على أجل مسمى.
فخرج في البحر فقضى حاجته ثم التمس مركبا يركبها يقدم للأجل الذي أجله، فلم يجد مركبا، فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه، ثم زجج موضعها، ثم أتى بها إلى البحر، فقال اللهم إنك تعلم أني قد كنت تسلفت فلانا ألف دينار فسألني كفيلا فقلت كفى بالله كفيلا فرضي بك، وسألني شهيدا فقلت كفى بالله شهيدا فرضي بذلك، وإني جهدت أن أجد مركبا أبعث إليه الذي له فلم أقدر، وإني أستودعكها، فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه ثم انصرف وهو في ذلك يلتمس مركبا يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبا قد جاء بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال فأخذها لأهله حطبا.
فلما نشرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الذي كان أسلفه فأتى بالألف دينار فقال والله ما زلت جاهدا من طلب مركب لآتيك فيه، قال هل كنت بعثت إليّ بشيء؟ قال أخبرك أني لم أجد مركبا قبل الذي جئت فيه، قال فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة، فانصرف بالألف دينار راشدا، وهكذا عندما يصدق الرجل في عهده ووفائه، وهكذا عندما يهم الإنسان بدينه وعهده ليقضيه ولا يلتمس أعذارا، وهكذا حينما تكون النفس عفيفة لا تأخذ إلا مالها، وكان بإمكان المسلف أن يأخذ ما أتاه به، فاصدقوا مع الله واصدقوا مع الخلق وأوفوا ما عاهدتم به، وراقبوا ربكم بما بينكم وبينه، فإن الوفاء هو الصدق بالوعد مع الآخرين حتى دون أن تطلب منهم.
وهو خصلة جميلة ونادرة في الإنسان في هذا الزمن، وهو خصلة اجتماعية لطيفة خلقية تتمثل في التفاني من أجل شيء ما أو مسألة ما بصدق خالص، والوفاء هو أصل الصدق، عندما يبلغها الإنسان بمشاعره كاملة، والوفاء صدق في القول والفعل معا دون ترك أحد منهما، والوفاء يلزم القيم السامية والمثلى للإنسان ليعيش حياة كاملة، فمن فقد عنده الوفاء فقد ترك إنسانيته، وقد جعل الله الوفاء قواما لصلاح أمور الناس جميعا، وإن الوفاء ضد الغدر، ويقال وَفى بعهده وأوفى، بمعنى، ووفى بعهده يفي وفاء، وأوفى إذا تمم العهد ولم ينقض حفظه.