ادب وثقافة

الشّاهد في كتاب سر الفصاحة

جريدة موطنى

الشّاهد في كتاب سر الفصاحة

نقدبقلم م. نور حبيب عبد الكريم

الشّاهد في كتاب سر الفصاحة للأمير أبي محمد بن سعيد بن سنان الخفاجي الحلبي الذي صححه وعلّق عليه (عبد المتعال الصعيدي) يعد الاستشهاد من الآليات المهمة؛ لتوضيح فكرة ما، وبيانها، والاحتجاج بوساطتها؛ لإقناع المتلقي. ويكون على شكل بيتٍ من الشعر، أو تضمين، أو اقتباس وذلك” أن يُضمّن الكلام شيئًا من القرآن أو الحديث، لا على أنه منه”([1]). فمن خلال الاستشهاد يمارس المتكلم سلطته المعرفية على المتلقي للاستدلال على ما يريد اثباته من حجج وحقائق. ” والشاهد عند أرسطو بمثابة القوانين والشهود والاعترافات وأقوال الحكماء، أما في الخطابة العربية فهي تضمين الآليات القرآنية والأحاديث وأبيات الشعر والأمثال والحكم، وهي حجج جاهزة تكتسب قوتها من مصدرها ومن مصادقة الناس عليها وتواترها”([2]).

   ونجد في كتاب ( سر الفصاحة لابن سنان)، أن الشاهد يحقق الهدف الذي أراده المؤلف، ألا وهو ( طرح مفهوم الفصاحة) والتأكيد عليه، وتوضيحه، والرد على الآراء التي تخالفه. فمن خلال تحليل الشواهد القرآنية والشعريّة والنثرية، يثبت ما يريده ، وينفي غيره، ويقارن ويحلل ويبيّن مواضع القبح أو الحسن فيها.

   وتنوعت الشواهد في الكتاب بين آيات قرآنية، وأحاديث نبوية، وخطابًا للصحابة، وأمثالًا، وأشعارًا مختلفة. وقد حاول المؤلف أن يوازن بين الآيات القرآنيّة والأحاديث النبوية الشريفة والشعر، وإن كان الأخير هو الغالب، لكن نلاحظه قد يبدأ حديثه، وشرحه وتفصيله، بشاهدٍ من القرآن الكريم، حتى أنه اتخذ آيات القرآن الكريم دليلا حجاجيًا على ( شرف الفصاحة) كما في قوله تعالى:” الرحمن علّم القرآن خلق الإنسان علّمه البيان”([3])، ويؤكد ذلك أكثر بالاستشهاد بحديث نبوي شريف للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم)” أنا أفصح العرب بيد أنّي من قريش”([4]). أو كما في ( فصل في الأصوات)، بعد تعريف الصوت لغة، يستشهد بقوله تعالى: ” إن أنكرَ الأصوات لصوت الحمير”([5])، ثم يأتي بأبيات من الشعر لـ( جرير و رويشد بن كثير الطائي). كذلك في ( فصل في الكلام)، بعد تعريفه ( الكلام) يستشهد بقوله تعالى: ” وكلّام الله موسى تكليمًا”([6]). كما نجد علاقة بين الشاهد القرآني والآخر الشعريّ، فنراه يؤكّد ما جاء في البيت الشعري من خلال الاستدلال بالشاهد القرآني، ففي معرض حديثه عن ( الحرف)، يورد شطرًا من بيت للكميت:( كما زلَّ عن رأس الشجيج المحارف)([7])، ويوضح المحارف بأنها” جمع محراف وهو الميل”([8]).

 ويؤكّد ذلك بقوله تعالى: ” يحرفون الكلم عن مواضعه”([9]). كذلك نقده لشاهد (لأبي عبادة) يقول فيه:

يشق عليه الريح كل عشية جيوب الغمام بين بكر وأيم([10]).

   فيعلّق ابن سنان بقوله:” فوضع الأيم مكان الثيب وليس الأمر كذلك، ليس الأيم الثيب في كلام العرب، إنما الأيم التي لا زوج لها، بكرًا كانت أو ثيبًا”([11]). ويستدل على ذلك بآية قرآنية:” وانكحوا الأيامى منكم والصّالحين من عبادكم وإمائكم” وليس مراده تعالى نكاح الثيبات من النساء دون الأبكار، وإنما يريد النساء اللواتي لا زوج لهن”([12]).

 فالشاهد الشعريّ هو الأغلب في الكتاب، فقد جاء الكاتب بشواهد لشعراء من عصور مختلفة ليحلل ويقارن ويناقش، فمنهم من العصر الجاهلي كـ( امرئ القيس، وزهير بن أبي سلمى، وطرفة بن العبد، وعنترة العبسي، والأعشى، ورويشد بن كثير الطائي، وعروة بن العبد، ومضرّس بن ربعي الأسدي، وخريم الهمداني)، ومنهم مخضرم كـ( الحطيئة، وعمرو بن معد يكرب، والشماخ بن ضرار، ورؤبة بن العجاج، وأبي خراش الهذلي، وأبي طالب، والخنساء). وشواهد لشعراء من العصر الإسلامي كـ( حسان بن ثابت) 

وعلى سبيل المثال. ومن العصر الأمويّ كانت أغلب الشواهد لـ( جرير والفرزدق) مع شعراء آخرين كـ( الكميت، وعمرو بن ربيعة، ومالك بن أسماء بن خارجة، والحسين بن مطير الأسدي، وذي الرمة…)، أما من العصر العبّاسي فقد كانت أغلب الشواهد لـ( المتنبي، وأبي تمام، كذلك البحتري)، فضلا عن شواهد متفرقة لشعراء من هذا العصر كـ( ابن نباتة، والشريف الرضي، وصاعد بن عيسى الكاتب، ومسلم بن الوليد، ومهيار الديلمي). 

      فقد حرص ابن سنان على ذكر اسم الشاعر، سواء في المتن أو الهامش، ويندر ما نجد بيتًا لم يُذكر صاحبه، ونجد في معرض حديثه عن اللهجات، يذكر اسم القبيلة لا الشاعر، كما في قوله: ” ومن هذا الفصل أيضًا أن يبدل حرف من حروف الكلمة بغيره، كما قال الشاعر _ هو رجل من بني يشكر: لها أشاير من لحم متمرة من الثعالى ووخز من أرانبها”([13]).

  ونجد أن ابن سنان يذكر الشاهد ويشرحه، ويعلّق عليه بالنقد أو المقارنة بينه وبين غيره، ومن أمثلة ذلك نقده لبيت للمتنبي الشاعر” فقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا قلاقل عيس كلهن قلاقل

غثاثة عيشى أن تغث كرامتي وليس بغث أن تغث المآكل.([14])

  يعلّق ابن سنان ناقدًا بقوله:” فقد اتفق له أن كرر في البيت الأول لفظة مكررة الحروف، فجمع القبح بأسره في صيغة اللفظة نفسها، ثمَّ في إعادتها وتكرارها، وأتبع ذلك بغثاثة في البيت الثاني، وتكرار_ تغث_ فلست تجد ما تزيد على هذين البيتين في القبح”.([15]) ومن أمثلة ذلك أيضًا نقده لبيت للفرزدق يمدح فيه إبراهيم بن اسماعيل:” وما مثله في الناس إلا مملكًا أبو أمه حيٌّ أبوه يقاربه”([16])

 فيرى ابن سان أن ” في هذا البيت من التقديم والتأخير ما قد حال معناه وأفسد إعرابه، لأن مقصوده، وما مثله في الناس حيّ يقاربه إلا مملكا أبو أمه أبوه، يعني هشامًا لأن أبا أمه أبو الممدوح”([17]). فقد أورد ابن سنان الشاهد ونقده وحلله. وهذا ما نجده كثيرًا في ( سر الفصاحة)؛ ليكشف عن الأفكار التي يطرحها وايضاحها.

   فالشاهد الشعري عند ابن سنان لم يتوقف كما ذكرنا عند عصر معين ولم يتبع تسلسلًا زمنيًا محددا فنجده عن الموضوع الواحد يذكر عدة شواهد لشعراء من عصور مختلفة ، وقد ذكر ابن سنان سبب اختياره لهؤلاء الشعراء بقوله:” إلا أني أعتمد على التمثيل بأشعار هؤلاء الفحول المتقدمين في هذه الصناعة لأمور: أولها صيانة هذا الكتاب عن تهجينه بذكر غيرهم. وثانيها أن اللفظة التي تكره في نظم هؤلاء الحذاق تقع فريدة وحيدة يظهر مباينتها لكلامهم، فالعلم بها واضح، وكشفها جلي”([18]). والأغلب يذكر البيت كاملا، وإن ذكر شطرًا منه في المتن، فيكمل الشطر الآخر في الهامش، ولا يذكر قصيدة كاملة أو عدة أبيات كشاهد إلا في موضع يتطلب ذلك كما في حديثه عن القافية صفحة (213) ذكر أكثر من بيت لـ(أبي عبادة والمتنبي)؛ لتوضيح الفكرة بشكل دقيق. ومعظم الشواهد كانت تستجيب للدراسة التطبيقية للكتاب، ووسيلة التأصيل للقواعد وتقعيد لها، وكانت الغاية منها تعليمية والتأكيد على مفهوم الفصاحة ونبذ الألفاظ الأجنبيّة أو العامية؛ لأن هذه المفردات تشوه النصوص وتجنح بها إلى معان مبتذلة.

الشّاهد في كتاب سر الفصاحة

اكمل القراءة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار