الرئيسيةمقالاتالصمت الذي يكسر البشر ببطء
مقالات

الصمت الذي يكسر البشر ببطء

الصمت الذي يكسر البشر ببطء
بقلم/نشأت البسيوني

هناك صمت لا يشبه أي صمت عادي هو صمت ثقيل يثقل الصدور ويضغط على القلب ويبدأ صغيرا كما لو كان مجرد فجوة ثم يكبر تدريجيا حتى يصبح موجة تهدر كل شيء بداخلك ولا يراها احد الانسان يعتاد الصمت في البداية كهدوء ثم كواجب ثم كعقوبة ثم كقدر لا مفر منه يبدأ بالكتم عن الأشياء الصغيرة ثم عن الأشياء الكبيرة ثم عن كل شيء يصبح يختزن كل شعوره وحده في هذا

الصمت تمر الايام والليالي ويمشي الناس حولك يظنون انك بخير يبتسمون لك يحيونك يسألون عنك وانت تقول كل شيء على ما يرام بينما داخلك تنهار كل فكرة وكل كلمة وكل حلم كان يضيء داخلك يتحول الى فراغ يبتلعك تدريجيا الانسان الذي يعيش في صمت كهذا يصبح خائفا من الحكي يصبح حذرا من الجميع يصبح مشغولا بجمع نفسه كل يوم فقط ليتمكن من الاستيقاظ في اليوم

التالي الصمت لا يقتصر على كتم الكلام فقط بل يمتد الى كتم الاحاسيس كتم الامتنان كتم الحب كتم الغضب كتم الخوف كل شيء يبقى داخلك متراكم لا يستطيع الخروج لا يستطيع التحقق لا يستطيع الظهور فيضطر القلب الى التكيف مع الفراغ في حين يعتقد العقل انه مستمر في الحياة كما هو أخطر ما في الصمت انه يجعل الانسان يتظاهر بالقوة بينما كل يوم جزء منه ينهار كل يوم

جزء من روحه يموت بصمت كل يوم يصبح اقرب الى شخص اخر لا يشبه نفسه بل نسخة مرسومة بعناية لتبدو مطمئنة للآخرين لكنها فارغة داخليا تماما الصمت يصبح سجنا لا تستطيع الهروب منه ولا تستطيع تغييره ما دام لم تقرر مواجهة الحقيقة في هذا السجن الصامت يتعلم الانسان الصبر بطريقة قاسية يتعلم ان لا يعتمد على احد يتعلم ان الاحساس لا يهم الا لمن يستطيع سماعه

وحده يتعلم ان الحياة لا تعترف بالصراخ ولا بالدموع وان الكتمان يصبح مهارة للبقاء وان كل ضحكة خارجية قد تكون جرحا مكبوتا في الداخل لكن الصمت ايضا يمكن ان يكون بداية وعي يمكن ان يجعل الانسان يرى نفسه كما هي ويرى حدود قدرته ويرى من حوله كما هم يرى من يستحق منه الاهتمام ومن لا يستحق يرى قيمته الحقيقية بعيدا عن المظاهر بعيدا عن الكلمات بعيدا عن

الاصوات كل شيء يصبح واضحا عندما نواجه الصمت بصدق وليس بالتهرب الصمت يعلم الانسان ان في داخله قوة غير مرئية انه قادر على الاحتمال اكثر مما كان يظن انه قادر على الحب اكثر مما كان يعتقد انه قادر على التغيير رغم كل الكبت رغم كل الضغط رغم كل الانكسارات الصغيرة التي تتراكم يوميا الصمت الذي يكسر البشر ببطء يعلمنا ان القوة الحقيقية ليست في كثرة الكلام او في

اظهار المشاعر بل في معرفة متى نصبر ومتى نواجه ومتى نترك لنفسنا الحرية في ان نشعر ونعبر ونتحرر وان ندرك ان كل جزء منا يستحق ان يسمع وان يشعر وان يعيش بصدق بعيدا عن الكتمان والضغط الصامت الذي ينهك الروح تدريجيا وهنا تنتهي الحكاية لا لان الصمت انتهى بل لان الانسان اخيرا بدأ يرى نفسه ويتعامل مع واقعه بعين واعية ويدرك ان الصمت جزء من الرحلة وليس النهاية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *