” جمال سلامة ” خاتشادوريان العرب
بقلم د : رشا يحيي
وقف الخلق ينظرون جميعا كيف أبنى قواعد المجد وحدى! .. ويقول المثل الشعبى :
اللى بنى مصر كان فى الأصل حلوانى! هل بمعنى صانع الحلوى أم صانع حلاوة الدنيا وتاريخها وحضارتها؟!
هى مصر.. بلد الجمال التى فطر الله أهلها على التفكر والإبداع،
فهل يتناسى أحد أن وراء عظمة مصر أبنائها، الذين خلقهم الله مبدعين!.. فما من فن إلا وهو وليد إبداع المصريين الذين يسرى فى دمائهم حب الفنون، بداية من قطعة البوص التى صنع منها الناى، وتعلم وحده العزف عليها ليحكى قصة الانسان والمكان ، ويعلم الحكمة للبشرية.. وإنتهاءا ببناء أقدم وأعظم صروح الدنيا والتى تذهل العالم وستظل وهى الأهرامات.. وفى الآونة الأخيرة يردد البعض كلمات تحمل الخوف والقلق على الفنون المصرية، ويتهمونها بالمرض والشيخوخة، بل لا يخجل البعض من الترحم على الفن المصرى ويعدونه من الأموات!.
لذا ومن خلال الحكى عن أحد مبدعى مصر، المخلوقين من طمى نيلنا العظيم سوف نعرف أن هذا البلد كان وسيظل هو الأم الولادة التى لا ينضب رحمها عن إنجاب المبدعين، وأنها درة تاج الدنيا رغما عن الحاقدين والحاسدين والمتلهفين نسبها أو الإنتساب لها.
أكتب عن مؤلف موسيقى عبقرى بكل المقاييس، ولكن شدة تواضعه ورقى مشاعره أخذا من رصيده بدلا من الإضافة إليه!
هو أ.د جمال سلامة( 1945 -2021) الضاحك الباكى طيب القلب الحنون مرهف الحس، والذى أطلقت عليه فى أول مقالاتى عنه إسم “خاتشادوريان العرب“ نسبة إلى أستاذه المؤلف الموسيقى العالمى آرام خاتشادوريان (١٩٠٣-١٩٧٨)، لما بينهما من عوامل مشتركة، كثراء الألحان وبراعة المزج بين الألحان ذات الطابع الشعبى وإحترافية الصنعة القائمة على الدراسة العلمية الرصينة لعلوم الموسيقى.. وما قدمه كل منهما من إنتاج متنوع و غزير، ودور كل منهما فى مجال موسيقى السينما.
أما خاتشادوريان نفسه فقد لقب تلميذه جمال سلامة “جلينكا العرب“، وجلينكا (١٨٠٤- ١٨٥٧)
هو أحد أهم المؤلفين الروس الذين حققوا شهرة عالمية، ويعد أول مؤلف موسيقى روسى يُقبل به خارج روسيا، وأطلق عليه الأب للموسيقى الروسية، وكان على رأس المؤلفين الذين أرسوا الموسيقى القومية الروسية.. ومن هنا كان تشبيه خاتشادوريان لجمال سلامة، بعد أن لمس موهبته الفائقة، وقدرته على صياغة ألحان مميزة تعبر عن هويته.. وتوقع أن يتشابه دوره فى الموسيقى المصرية وإنطلاقته خارج حدود بلاده بالمؤلف العالمى جلينكا.
الدكتور جمال سلامة أستاذى وأستاذ أجيال كثيرة تعلمت منه فن الموسيقى والحياة، ولكن على الرغم مما وجده دكتور جمال سلامة من تقدير كبير لموهبته وموسيقاه الرائعة، ما بين أفلام ومسلسلات وأغانى مازالت تعيش فى الوجدان، وتصاحبنا فى كافة المناسبات، إلا أن ما ناله من تقدير كان أقل كثيرا مما يستحق، ولم يعرف قدره الحقيقى إلا ندرة (حتى من بين المتخصصين)!..
فقد إختزل البعض إبداعاته فيما قدمه من أغانى وموسيقى للأفلام والدراما -تخطت الألف عمل- ولكن بكل أسف تم تجاهل إبداعاته فى مجال الموسيقى البحتة سواء أعمال سيمفونية أو أعمال موسيقى حجرة أو غيرها من صيغ موسيقية عالمية .. ولم تُستغل قدراته وفيض موهبته المقترنة بالعلم، كى نخاطب بها العالم، ونؤكد على مدى تطور الفن المصرى وإرتقاءه وجمعه للأصالة والمعاصرة.
وقد كتبت عن دكتور جمال سلامة مرات عديدة فى حياته، وكان لى الشرف أن تحظى إحدى مقالاتى بأن تكون بين المقالات والصور التى إختار أن يضعها على حائط الأستوديو، الذى شهد ميلاد أغلب موسيقاه على مدار عمره.. ذلك المكان الذى عاش فيه السنوات الأخيرة من حياته، والذى يحمل في قلبى ذكريات لا يمكن محوها، وأنا أقضى ساعات طويلة أعزف على (الفيولا) موسيقاه الرائعة، وهو يصاحبنى على البيانو وكلانا في أقصى حالات النشوة والاستمتاع.. ولن أنسى دموعه النبيلة وهى تنساب بغزارة أثناء عزفه، حين يتذكر ذكرياته مع تلك الألحان، أو تأثرا بها وخاصة الأغانى الدينية والوطنية التى كانت أكثر ما يحرك مشاعره.
أكتب عن جمال سلامة وكلى فخر وإعتزاز وإمتنان لله تعالى، بأن جعلنى ممن عرفوا عن قرب هذا المبدع المصرى القدير، وممن تتلمذوا على يديه وتعلموا منه.. واستمتعوا بفنه وخبراته وعلمه الغزير.. وأدين له بمساعدتى فى إكتشاف قدرات فى نفسى لم أكن أعرفها، رغم سنواتى الطويلة فى رحاب دراسة الفنون وعلومها…. وأشهد الله أننى لم أجد منه سوى التشجيع والدعم والمساندة فى ظل حروب طاحنة كادت أن تعصف بى، وأتذكر نصائحه لى، والتى كانت من فرط صدقها أشبهها بنصائح أمى.
سأكتب عنه وأنا شديدة السعادة بتنفيذ وعدى بكتابة قصته، والتى سرد لى الكثير منها، وموثق بصوته الجميل المملوء بالطيبة والحنان، وأشعر أن ثقته التى أولانى إياها طوقا فى عنقى وفخرا لى، وسأكون شديدة الأمانة والدقة، ولن أخذله فى ثقته بى.
آن الأوان أن أخلع هذا الطوق عن عنقى، وأنشر كلماته وذكرياته وحكاياته التى خصنى بها، على مدار فترة طويلة من الزمن ، سجلنا فيها الكثير من أحداث حياته وحكاياته فى عدة تسجيلات صوتية أو مرئية.. كما منحنى في آخر لقاء جمعنى به صورة من القائمة الموثقة بجمعية المؤلفين والملحنين فى باريس، للمئات من أعماله الموسيقية(موسيقى بحتة، وأفلام، ومسلسلات، ومسرحيات، وأغانى) كى أنشرها في الكتاب الذى كان مهتما بصدوره.. ولكن لم يمهله القدر أن يرى إتمام هذا الكتاب فى حياته كما تمنى.
سأكتب قصة هذا العملاق فى حلقات، من واقع محبتى له وتلمذتى على يديه ومعرفتى بقيمته وقدره، وصداقتنا الإنسانية والفنية.. ويسعدنى أن يكون المنبر الذى تطل منه على القراء تابع لبيت أستاذى وبيتى، وهو وزارة الثقافة، وجريدتها الرصينة جريدة القاهرة، وما يزيدنى فخرا وإنتشاءا أن تخرج إلى النور تحت إشراف أحد أعلام الصحافة العربية الكاتب السياسى والصديق الصدوق أستاذ طارق رضوان رئيس التحرير الذى أتوقع أن ينقل الجريدة إلى ما تستحقه من مكانة تحمل إسم جريدة تتبع وزارة الثقافة المصرية، وأتقدم له بخالص التهنئة لتوليه رئاسة تحريرها والدعاء بالتوفيق ودوام الإبداع كما عهدناه دائما.
سوف أتناول من خلال الحلقات نشأة جمال سلامة وبداياته ونبوغه وخبراته ودراساته، وإسلوبه الموسيقى المتميز، وذكرياته مع كبار الشخصيات والفنانين والرؤساء .. وصداماته وصدماته وبعض إعترافاته.. والغصة التى إستشعرها من بعض زملائه وأصدقائه.. سنتناول جمال سلامة فى عيون من عاشروه واقتربوا منه كزوج وأب وأخ وأستاذ وصديق .. وشهادات من زملائه وعائلته وتلاميذه ونعرف شخصيته وتناقضاتها.. بين الطيبة التى قد يتخيلها البعض سذاجة، وحدة ذكاءه التى تجعله يلتقط أدق التفاصيل والإشارات، وإن تجاهلها أو أبدى عدم الإكتراث أو الفهم لما يحدث .. سنرى تواضعه الجم الذى قد يتخيله البعض عدم وعى بقيمة نفسه، وبين ثقته المفرطة وإحساسه اللا متناهى بموهبته وتميزه الذى لم يسبقه إليه أحد فى العالم العربى، سنقدم جمال سلامه إنسانيا وفنيا كما لم يعرفه أحد، ونتعرف على المناخ الثقافى والإبداعى الذى عاشته مصر، منذ طفولته، وحتى توفاه الله تعالى فى الجمعة الأخيرة فى العشر الأواخر من رمضان، وأرجو أن تكون رحماتنا له فى ذكراه الثانية ونحن نقرأ تلك الكلمات شفيعا له.
أسأل الله التوفيق حتى تخرج حلقات ذلك العمل بالصورة التى تليق بقيمة وقامة هذا المبدع الكبير، وتعيد للكثيرين الثقة فى نهر الإبداع المصرى الممتد إمتداد نهر النيل وتاريخه، والذى لا ينضب أبدا بأمر الله ومشيئته، نيل مملوء بفخر مصر من فن وفنانين!