حين يتعلم القلب ان يسير دون ضجيج
بقلم/نشأت البسيوني
في لحظة غير محددة من العمر يتعلم القلب درسا لا ينسى ان السير الهادئ لا يعني التراجع وان الصمت ليس دليلا على الفراغ بل علامة امتلاء عميق الانسان يصل الى هذه اللحظة بعد ان يستهلك صوته في التبرير وبعد ان يهدر طاقته في محاولات اثبات لا تنتهي وبعد ان يكتشف ان بعض الابواب لا تفتح مهما طال الوقوف امامها عندها فقط يبدأ القلب في اختيار طريق اخر طريق لا يحتاج
تصفيقا ولا شهودا ولا موافقات خارجية طريق يعتمد على الانتباه وعلى الاقتصاد في المشاعر وعلى حماية الداخل من الاستنزاف اليومي العالم مزدحم بالاصوات العالية لكن القليل فقط من يفهم قيمة الهدوء ذلك الهدوء الذي لا يولد من الراحة بل من التجربة ومن الخسارات الصغيرة التي علمت الانسان كيف يخفف حمله وكيف يترك ما لا يضيف وكيف يحتفظ بما يمنحه توازنا البشر
يعتقدون ان القوة في التماسك الدائم لكنهم ينسون ان التماسك الحقيقي يبدأ بالاعتراف بالتعب وبالاحتياج وبالقدرة على التوقف دون شعور بالعار الانسان لا يخسر حين يهدأ بل يخسر حين يواصل الركض في اتجاه لا يشبهه الحياة لا تمنحنا اجابات جاهزة لكنها تضعنا في مواقف تكشف لنا اسئلتنا الحقيقية ومع كل موقف نتعلم ان النضج ليس في جمع الخبرات بل في اختيار ما نحتفظ به منها
وما نسمح له بالعبور دون ان يترك ندبة دائمة هناك من يعيشون عمرهم كله وهم يكدسون الوجع حتى يصبح ثقيلا عليهم وهناك من يتعلمون كيف يضعون الوجع في مكانه الطبيعي كجزء من الرحلة لا كهوية الانسان الذي فهم لا يتباهى بما تحمل ولا يستعرض ما نجا منه بل يمضي بخفة من تعلم ان السلام الداخلي اهم من الانتصار في كل معركة وان الراحة ليست كسلا بل استعادة للاتزان
ومع مرور الوقت يكتشف الانسان ان الهدوء ليس غيابا عن الحياة بل حضورا اصدق فيها وان تقليل الضجيج حوله يسمح له بسماع صوته الداخلي بوضوح ذلك الصوت الذي كان يضيع وسط توقعات الاخرين وضغط المقارنات وسرعة الايام حين يهدأ القلب تتغير طريقة الرؤية فيصبح الانسان اكثر وعيا بالاشخاص الذين يستحقون القرب واكثر انتباها للحدود التي تحميه من الاستنزاف
واكثر شجاعة في مغادرة ما يؤذيه دون خطابات وداع ولا تفسيرات طويلة الانسان لا يصبح باردا حين يتعلم الصمت بل يصبح انقى واكثر تركيزا على ما يهم حقا الحياة لا تكافئ دائما الاكثر صدقا لكنها تمنحهم شيئا اعمق تمنحهم القدرة على النوم دون صراع وعلى الاستيقاظ دون خوف من مواجهة يوم جديد ومع الوقت تتبدل الاولويات ويصغر حجم الاشياء التي كانت تبدو
مصيرية ويتسع صدر الانسان لاحتمال الاختلاف دون غضب وللاحتمال الخسارة دون انهيار وللاحتمال التغيير دون فزع وفي النهاية لا يصل الانسان الى السلام حين يغير العالم من حوله بل حين يعيد ترتيب علاقته به وحين يفهم ان السير دون ضجيج ليس انسحابا بل اختيار واع لحياة اخف واقرب الى الروح وحين يتعلم القلب ان يسير بهذه الطريقة يصبح قادرا على الاستمرار بثبات
هادئ لا يلفت الانتباه لكنه يصنع حياة اكثر صدقا واتساقا ومعنى وعندما ينظر الانسان الى خلفه يجد كل لحظة صمت وكل اختيار حكيم وكل انسحاب مقصود وكل قرار بالاحتفاظ بما يستحق والترك لما يضر كل ذلك يشكل نسخته الاكثر اكتمالا وهدوءا وهو يعلم ان اعظم انتصار في حياته لم يكن الفوز في المعارك ولا جمع الاشياء ولا رضا الاخرين بل هذه القدرة النادرة على الاستمرار
بنفسه الحقيقية دون ان يغير جوهره او يخسر قلبه ويستمر في الحياة بثبات عميق وصمت هادئ ونور داخلي لا يحتاج شهادة من احد ليصدقه
حين يتعلم القلب ان يسير دون ضجيج


