حين يجلس الناس معًا… وتبقى الأرواح وحدها
محمود سعيد برغش
في هذا المشهد داخل حافلة مكتظة، لا تتحرك المقاعد وحدها، بل تتحرك معها قصص بشرية أرهقها الزمن. وجوه تنظر من النوافذ وكأن الخارج مساحة أوسع من صدورها، وعيون تجاهد لتخفي الحزن، وأكتاف تلتصق ببعضها دون أن تتلامس الأرواح. كل واحد منهم يحمل من الهموم ما لو وُزّع على أهل الأرض لكفاهم، ومع ذلك لا يصدر منهم صوت سوى زفير مكتوم، وكأنه اتفاق غير معلن على أن يبقى كل واحد في حاله.
المرأة التي تجلس بجوار النافذة لا تنظر للشارع، بل تنظر لعمرٍ مرّ بسرعة. الرجل الذي بجوارها يحمل في نظراته تسليمًا
عجيبًا، كأنه قد صالح الدنيا على قسوتها. الشاب الواقف في الممر يبدو كما لو أنه يحمل العالم كله فوق ظهره. الطفل يحاول فقط أن يجد مكانًا يقف فيه دون أن يسقط. ومع ذلك… لا أحد يسأل أحدًا. ليس لأنهم لا يهتمون، بل لأن كل قلب ممتلئ حتى الحافة ولا يجد متسعًا لزيادة قطرة.
وهنا يتجلى قول الله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾، كأن الآية نزلت على هؤلاء الجالسين، كلٌ منهم في مشقته الخاصة. لكن الله الذي قدّر الكبد وعد أيضًا بالفرج فقال: ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾، وكأن رحمة السماء تهمس في زحام الحافلة بأن هذا التعب لن يدوم، وأن خلف كل ضيق بابًا يفتح.
ولم يكن الشرع يومًا داعيًا للعزلة القاسية، بل قال سبحانه: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾، دعوة لمدّ اليد، لا لرفع الحواجز. وقال النبي ﷺ: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا»، ولو شدّ الناس بعضهم لخفّ ثقل الطريق. وعلّمنا عليه الصلاة والسلام أن الرحمة ليست خيارًا، بل عبادة: «من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة». وربّما يخفّف سؤال بسيط، أو كلمة لطيفة، عن إنسان ينهار بصمت.
وكان الصحابة والخلفاء الراشدون يرون الناس أمانة لا مجرد رفقاء طريق. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “لو عثرت بغلة في العراق لسُئلت عنها: لِمَ لم تُصلح لها الطريق يا عمر؟”، فكيف لو كان الذي يعثر إنسانًا؟ وكيف لو جلس في زحامٍ كهذا يبتلع همومه وحده؟ وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق”، وفي كلا الحالتين، لا يجوز أن يُترك وحيدًا أمام مشاكله.
أما الفقهاء والعلماء، فقد أجمعوا أن تفريج الكربات من أعظم الطاعات، وأن حمل همّ الآخرين قُربة إلى الله، وقال الإمام الشافعي: “من لم تعطه الدنيا فكرمُ الأخلاق يكفيه”، فليس الفقر فقر المال فقط، بل فقر القلوب حين لا تجد من يسندها. وقال الحسن البصري: “ما زال الناس بخير ما تعاطفوا”، وكأن التعاطف هو الحبل الأخير الذي يبقي المجتمع قائمًا. وكتب ابن القيم: “الرحمة خُلقٌ يختار الله له من يشاء”، فمن وهبه الله الرحمة لم يدع قلبًا يمر بجانبه دون أن يشعر به.
وهكذا يصبح مشهد الحافلة رسالة لا مجرد صورة. فنحن نركب المركبة نفسها، ونسير في الطريق نفسه، ونرى العالم من النوافذ نفسها، لكن كل قلب يحمل معركته وحده. والشرع لا يريد مجتمعًا يجلس أفراده متلاصقين في المقاعد لكن متباعدين في الرحمة، ولا دينًا يعيش فيه كل إنسان داخل صمته دون يد تمتد إليه.
وحين نقول اليوم: “كل واحد في حاله”، علينا أن نتذكر أن الإسلام يقول عكس ذلك تمامًا:
كونوا قربًا، كونوا رحمة، كونوا سندًا… فالطريق طويل، والقلوب متعبة، ولا يليق بالبشر أن يمرّوا ببعضهم وكأنهم لا يرون شيئًا.


