في مشهدٍ يثير التساؤل ويختبر ضمير العدالة، نجد من يُبعد عن موقعه بدعوى المخالفة، ثم تُرفع له عبارات الشكر والتكريم من ذات الجهة التي أقرّت بتقصيره! مشهدٌ يعكس خللاً في ميزان الإنصاف، ويكشف عن ضياع البوصلة بين الواجب والمجاملة، وبين المبدأ والمصلحة.
في زمنٍ يفترض أن تُكرَّم فيه الكفاءات وتُصان فيه النزاهة، نُفاجأ أحيانًا بمشاهد تُصيب الضمير المؤسسي بالدهشة. كيف يُجبر مسؤول على الاستقالة بعد أن أُقِرَّت مخالفاته، ثم تُصدر المؤسسة ذاتها بيان شكرٍ وتقديرٍ له، كأن شيئًا لم يكن؟ أليس من مقتضيات العدالة والحوكمة الرشيدة أن تُفصَل المحاسبة عن المجاملة، وأن تُكرَّس الأمانة لا المُواربة؟
إنَّ هذا التناقض الإداري ليس مسألة شكلية، بل هو جرحٌ في ثقة الناس بالمؤسسات. حين يُجبر أحد القادة على ترك موقعه لأسباب جسيمة، فإنّ تقديم الشكر المبالغ فيه بعد ذلك لا يُعدّ تقديرًا بل تبريرًا، ولا يُسجَّل في ميزان الوفاء بل في سجل الازدواجية. والمؤسسات التي تفقد شجاعتها في إعلان الحق ومحاسبة الخطأ تفقد احترامها قبل أن تفقد مصداقيتها.
وإذا كان الأمر يتعلق **بمؤسسة دينية**، فإن العجب يتضاعف والخيبة تتعمق؛ إذ يُفترض أن تكون تلك المؤسسات مناراتٍ للحق، ومواطن للعدل، ومراجع للقيم قبل أن تكون مقارًّا للوظائف. فكيف يُغضّ الطرف عن المخالفة الواضحة، وتُمنح كلمات الثناء لمن أُلزم بالمغادرة؟ إنَّ في ذلك تناقضًا يبعث على الأسى، ويهزّ ثقة الناس بقدسية رسالة العلم والدعوة.
لقد أمرنا الله تعالى أن نقيم ميزان العدل على أنفسنا قبل غيرنا، فقال سبحانه:
> **”إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد”** (رواه البخاري ومسلم).
هذا الحديث ليس مجرد رواية، بل منهج إصلاحيّ عظيم؛ إذ يجعل المعيار هو الفعل لا الاسم، والموقف لا المنصب. وحين يُستثنى القويّ ويُنكّل بالضعيف، تُقبر العدالة وتُدفن القيم، مهما علت الشعارات.
لقد رأينا من يُبرّأ رغم وضوح تجاوزه، ومن يُحارب رغم نزاهته وبياض يده. فأين المساواة التي أمر الله بها؟ وكيف تُقنع الناس بأن المؤسسة تحارب الفساد وهي تكرّم من أُقِرَّت مخالفاته؟
إنَّ الشكر في غير موضعه تزكية باطلة، والسكوت عن الظلم مشاركة فيه. أما من ظُلِم أو أُقصي بغير وجه حق، فحسبه قول الله تعالى: