دردشة على شاطئ البطح
الأخيرة
أشرعة الحشار من مرافئ الذاكرة إلى آفاق المستقبل
بقلم: فايل المطاعني – الحكواتي
على شاطئ البطح، حيث تتراقص الأمواج مع حكايات الماضي، نعود لنكمل رحلة الأجيال، ونغوص في أسرار البحار كما عاشها رجال الحشار. بعد أن عرفنا الشيخ جمعة بن علي الحشار بسفن صور ومغامراته البحرية، وذهبنا معكم في سردية تاريخية مع الشيخ ناصر بن علي الحشار (المدفع العود) ، وتأملنا حكمة الشيخ خميس بن جمعة رجل الحكمة والسلام وصموده أمام تحديات الزمان، وارتقينا مع محمد خميس الحشار بين استمرار الارث التجاري والثقافة، ليأتي الجيل الشاب من عائلة الحشار في شخصية الدكتورة ريم بنت محمد خميس بن جمعة بن علي (بن مصبح) الحشار، التي جسدت روح المرأة في هذه الأسرة العريقة ، لتثبت أن الإرث ليس فقط موانئ وتجارة، بل هو فكرٌ و قلم؛ أديبة، تحمل على أكتافها وصايا العلم والتفكير ونهضة المجتمع، وتفتح نوافذ القراءة أمام العقول، مؤكدة أن الثقافة هي سفينة تبحر باشرعتها عاليا في سماء هذا العصر. ونوثق سويًا سلسله سرديه لخمس شخصيات من عائلة الحشار الكرام.
وفي هذه الدردشة الأخيرة، نكتشف معًا كيف استمرت سفن الخير في الإبحار، حاملة إرث الأجداد لنفتح نافذة جديدة على عالم البحار، والتجارة، والقيم التي ورثها الأبناء. كيف تشكّلت الهويّات بين المرافئ والتجارة، وكيف جمع الجيل الجديد بين الحكمة البحرية ومهارات التجارة الحديثة وروح الإنسانية التي تعلموها من أسلافهم.
هنا، نطل على وجه آخر للقمر في ذاكرة صور الحضارية، عبر شخصية محمد بن خميس الحشار: عاشق التراث الشعبي العُماني، وحافظًا للأغنيات والأشعار التي تغنى بها البحر والناس في صور. هو ذاكرة تنبض بالشجن، وناقل لإرث شعري خالد، من بينها الأغنية التي لا تزال تتردد أصداؤها:
زمان البحر ياللي دايم ما ننساه
زين زين يا بحر طاب ليلي معاه
فالبحر سفرة سعيدة
والهوى ربي يزيده
ننزغ شراعنا ونسافر من كلنديني
زين زين يا بحر طاب ليلي معاك
أغنية صاغ كلماتها مع صديق عمره الأستاذ ربيع عنبر العريمي، وغناها الفنان عبدالله الحتروشي، فبقيت علامة من علامات الوجدان الثقافي البحري في صور.
ولم يكن محمد بن خميس مجرد مجتهدًا في سرديات الشعر، بل كان له دورًا ثقافيًا بارزًا في نادي العروبة، مشاركًا في المسرح والفن والثقافة، حاملاً روح صور في كل محفل.
وقف على خشبة المسرح يومًا ليجسد قضايا فلسطين، ويعيد رواية البحر الموجوع بسفينة تحطمت قرب ممباسا. وشارك في عروض غنائية واجتماعية، في صور و حين كان طالبًا في الكويت، مثبتًا أن الثقافة عنده لم تكن ترفًا، بل هوية وإنتماء.
ومما استوقفني لإبداعه وسرده الثقافي مشاركته ب الشعر النبطي، حيث قال كتبت يومًا بيتين كان لهم أثر في قلبي، وأتبع ؛
صوت الجنى* حد ترميبه*
البنت الصغيرة كذا بصرها
وهذي الدنى كذب صرها
حد ترفعه وحد ترميبة
كانت بداياته في السرد والقافيه متواضعه جدا؛ ويذكرها مازحًا ويقول؛ ان اول تجربه له للصياغه الشعريه، كانت في اعوام دراسته في سوريا حيث الزخم الثقافي. وكان نتيجة للتقارب بين دول الشام والقضايا العربية واحتدام ساحة الحرب في فلسطين وقتها؛ فقد بادر بأول ما يذكره ككتابه بقافيه متواضعه في سن الثانية عشر؛ لتشفي الكلمات روح الشباب المنتفض والمؤازر للأخوة والدم العربي.
ثم أردف؛ الشيخ محمد بن خميس الحشار وتغنى خلال اللقاء بالكثير من القصائد المغناه للفنون الشعبيه في صور؛ وكان يحفظ منها أبيات في فن الرزحة. وهو فن يعتّز فيه الرجال بالقوة والشجاعه وحماية الاوطان، قال (حافظًا) :
يشهد الله إنا حامين الوطن
عن خفيف العقل ياخذها ضراه
يا خفيف العقل حذرك لا تظن
صاحب الناموس يبلغ منتهاه
للشاعر الصوري المعروف (ود همش)
كما ذكر، وقال؛
من دارنا حن تعنينا
ننصى وتود مرسايه
إن وجبوا شرعهم فينا
بتكون رسمه مخلايه
ثم ذكر؛ أن إحدى قصائد الرزحة القديمة تم تحديثها في عصر النهضه، وتقول القصيدة؛
عاينت براق يسوق مخايله*
يسقي ديار الغافري وجمع الوطن
أما سكناها بعز ومرجله
ول فنينا وغيرنا فيها سكن
والبيت الذي تم تعديله في عصر النهضه هو : (يسقي ديار للعرب جمع الوطن)
ويتجسد عشقه الدائم للفنون ويتجلى بحفظه لسرديات فن الميدان، ويذكر فيها قصيدة كانت موجهه من القصّاد (الشاعر): حافظ المسكري عندما كان في شرق أفريقيا موجهًا رساله بقصيدة ميدان للمدفع العود وهو الشيخ ناصر بن علي الحشار، قال فيها حافظ؛
أحد (مدفع العود) حدويات*
وكاتب رماضين* ما عرفه
تحت عاضد الخوخ، وثمرتين
الله يدومك يا راحاتي
انا امشي السباتال* عد مرتين
تبرى وتنقض يراحاتي
انا أداوي الصيم والعرقوب
صبح ناقض الخف والعرش
عبرّنا القطن والخلقان
وتعبوا الدخاتر والمداوي
هذا مكر ينزبار وبان
هذي علامته وبان في ريولي
نفع السّنه غاب حالدويات
وبعد نفع الدور ماعرفه
وبهذه المناسبة، ذكر لنا الشيخ محمد بن خميس؛ ان للمشيخه وللتجار صفات عديدة، لا تُختصر في القوة، والتعامل التجاري النقدي فقط، بل تتجسد بالكرم، وحل قضايا المجتمع، والاعتزاز بالقوة والخيل، والتحصينات ببناء الابراج والقلاع لدرء الاخطار عن الاقوام. وتَخلُص هذه الصفات إلى مهاره مهمه وهي اللباقة والادب في صياغة الكلام. وقال؛ كل صفات الرجوله والاعتزاز بالنفس والقوة لم تمنعهم عن صياغة الأبيات الشعريه الغزلية في أوقات الصفاء، فقد ذكر لنا بعضا من أبيات يذكرها لجدة الشيخ ناصر بن علي الحشار، قال فيها؛
يوم إنزلت من السماء الأبراق
لا هي خيلة ولا هي ناقه
حلوة مجفى ودقيقة ساق
برجع زري والصدر طاجه
زيتونة الشام حتي أوراق
ويا سدرة المنتهي ميلي
ميلي وميلي واشوف البنيه تواميلي
ويذكر الشيخ محمد ان الفنون تراعي عند صياغتها اللغه واللهجه المحليه بإختلاف نطقها بين المدن العمانية، ومن الملاحظ ان الكل في الجزيره العربيه واليمن والعراق متشابه في النطق ومستوى فهمهم عالي للرسائل في الابيات والكلام. واردف قائلا؛ انا عاشق لفن (التشحشح) وهو فن شعبي صوري يتكون نسيجه الشعري من بيت او بيتين، ويذكر من أبياته ويقول؛
يالطايره فاليو* حومي
حومي على صور العفية
وفضي بخبارك والعلومِ
وقد ذكر الشيخ محمد بن خميس ان السيرة الوحيده المطوله بصياغة شعريه في فن التشحشح هي سيرة سيدنا يوسف، ولكنه لا يذكر أبياتها.
واليوم، ونحن نغلق صفحة هذه السلسلة التي أتمت عامًا كاملًا من البحث والتقصي، ندرك أن “دردشة على شاطئ البطح” لم تكن مجرد مقالات، بل كانت سفرًا روحيًا بين الماضي والمستقبل؛ بين أشرعة النوخذة وأحلام الأجيال، بين ذاكرة صور وإبداع الحاضر.
ها نحن نطوي الأشرعة، ونرسو في مرفأ النهاية، لكن البحر باقٍ بمدّه وجزره، والذاكرة ما زالت تفيض بحكايات لم تُحكَ بعد. لقد كانت هذه الدردشات نافذة أشرعت أرواحنا نحو التراث، لتقول إن صور ليست مجرد مدينة على الساحل، بل هي ذاكرة وطن، وروح بحر، وملحمة أجداد.
عام مضى، لكن الحكاية لا تموت. فكل جيل يولد ليكتب سطرًا جديدًا في كتاب صور، وكل قلب ينبض بالحب لها إنما يضيف نغمة جديدة إلى أنشودتها الخالدة.
قد نطوي صفحة الكلام، لكن البحر لا يطوي صوته؛ وصور ستظل تُغنّي ما دام في الدنيا شراع وقلبٌ يتذكر.
—-
الجنى, حد ترميبه : الجنى هو نوع من انواع البامبو الصغير يصدر صوت عند ارتطامه بسطح صلب ، وايضا قصد بها (الجنية الذهب، وهو عملة كانت متداولة قديما), والمقصد سمعتهم معروفه
حدويات: الصوت العالي، كنايه عن صوت المدفع الحربي
كاتب رماضين: الوشاه ، والذين لا يصدقون في نقل الاخبار
السباتال: المستشفى وكان ينطق باللغه الانجليزيه هوسبيتال والمحلية بالسباتال
مخايله: هي السحب في اللهجه العمانية
فاليو: وتعني (الجو) حيث يستبدل اهل صور حرف الجيم في لهجتهم المحلية (البدويه) ويستبدلونها بحرف الياء.
دردشة على شاطئ البطح