ادب وثقافة

دموع العاشقين مخدر قاتل

دموع العاشقين مخدر قاتل .

يقول ( الاصمعي ) بخصوص خطورة دموع العاشقين التي لها مفعول قوي على المعشوق ، وهو بذلك يوازي خطورة سُم التعبان ،الأفعى او العقرب ، حيت يحتوي هذا السم على مادة (الزعاف ) التي تعمل على شل حركة الملدوغ .
وللاشارة فهذا المقال لا يشمل مفهوم عشق الصوفية الذي له معنى اخر غير الذي ذكره (الاصمعي) فعشق الصوفية للخالق هي درجة من التعلق حيت يصبح الله هو سمعه ، وبصره وكل معاملاته .

” إن الدمع في عين العاشق كالسمِّ في ناب الثعبان، فالعاشق يخدِّر فريسته بالدمع، كما يخدر الثعبان فريسته بالسم، والإنسان حيوانٌ محتال ”
الاصمعي

وقبل الخوض في تحليل ما جاء على لسان ( الاصمعي) ، لابد من معرفة صاحب هذه القولة ،
فمن يكون اذا هذا الرجل ؟

باختصار شديد هذا هو (ابو سعيد عبدالملك بن قريب الاصمعي) ،ولد ب ( البصرة ) اثناء حكم بني امية بالعراق ، في حين ان الوفاة غشيته بنفس المدينة اثناء فترة حكم العباسيين( 123ه- 216 ه) و(741م -831م )، كان عالما بالنحو ، يد غراء كما قال عنه(ابن الانباري) ،او شهادة(اسحاق الموصلي ) الذي قال عنه : ” لم أر كالأصمعي يدعي شيئاً من العلم، فيكون أحداً أعلم منه. ” ، كان كثير الرواية ، مولع بتلقي الاخبار اينما وجدت ، وخاصة في البوادي ، كان يطلق عليه ب (شيطان الشعر). و قال عنه الأخفش: ” ما رأينا أحداً أعلم بالشعر من الأصمعي ” .
اِن دموع العاشق عند (الاصمعي) هي بالنسبة للمعشوق كسم التعبان حين يغرس انيابه في الفريسة ، وعليه فالمعشوق يتم تخديره عبر دموع العاشق الشبيهة بالسُمًٌ الذي له مفعول تخديري قوي
فهي لا تزيد المعشوق سوى ارتباطا وتعلقا شديدين بالعاشق ، وحبّه حبًا قويا ، والانجداب المطلق نحوه ، فيتحول بعد ذلك الى اداة طيعة في متناوله ، من دون مقاومة او مواجهة .
وللاشارة فالعشق هنا له مكانة اعلى من الحب ، ولا يصل المحب الى مرتبة العشق الا بعد تجاوز مجموعة من الاشواط ، كالهوى والصبابة ثم الوجد وفي الاخير العشق ، وهذه المرحلة هي عبارة على مستوى نفسي وروحي يصل إليه كلا من العاشق والمعشوق ، فالحواس الجسدية للعاشق ليست معطلة ، ولكن يتصدرها الحضور الاول للمعشوق في الترتيب افقيا او عموديا ، والحالة هذه فان الكون كله يضحى متجسدا في معشوقته ، فلا يرى ولا يسمع الا طيف معشوقته ، وهو بذلك يصل الى مرحلة يسقط من خلالها حجب إسقاط كلي لعيوب المعشوق ، فهذا الاخير يتحول الى بناء متكامل لا نقايص ولا عيب فيه ،فهو البدر الكامل حُسنا وبهاءا ، وان كل نقد من طرف الغير ضد المعشوق،يخلق نوعا من التشنج لذى العاشق الذي يتحول بدوره الى كارهٍ لكل ما يكرهه المعشوق ، ويتاثر بكل ما يؤثر فيه .

فالمحبوبة عند العاشق هي الهدف الاول والاخير الذي يسعى اليه، ولا احدا اخر سواها يمكن ان يلفت انظاره غيرها ، فهي الهواء الذي يستنشقه ، كما انها هي معبده ، ومحراب صلواته ، تنمو فيه حرارة جميع العواطف الطاهرة ، وان البُعد عنها ، يمكن اعتباره حكم بالقهر والضياع والبؤس ، وكل هذه المظاهر تتجسد من خلال افعال وسلوك المُحب ، الذي لا يهمه احد من الغير ، كما انه لا يبالي قط بالقواعد والأعراف المجتمعاتية التي تفرض احيانا انواعا من القيود التي فرضتها احيانا الشعودة ،او الضلال الذي لا اساس شرعي او قانوني يحكمها ، فَهَم المحب ينحصر فقط في اِرضاء محبوبته ، وهو بذلك لا يرى في الوجود الفسيح اِلا محبوبته وذاته التي يرافقها كل من العذاب والالم والهُيام ، وكانهما الوحيدين اللذين خُلقا في هذا الكون .

يقول (قيس بن الملوّح ) وهو احد فطاحل الشعر العذري حين أخذه والده إلى مكة لعله ينسى معشوقته ( ليلى ) فتَعلّق بستار الكعبة وقال:
” اللهم زدني بليلى حبا ، وبها جنونا و لاتُنسِني ذكرها أبدا ”
وفي رواية أخرى ، لما اشتد الحال ب ( قيس ابن الملوح ) اِرتاَت عشيرته اَن يذهبوا به الى الحج ، لعله يشفى من مرض عشقه لِ ( ليلى العامرية) ، وعند وصولهم لِ مكة المكرمة ، خاطبه اهله : يا ( قيس ) ، هذا بلد الله وهذا بيته فادعُ الله تعالى أن يُعافيك من حب ( ليلى ) فأنشد قايلا :
ذكرتك والحجيج له ضجيج
بمكة والقلوب لها وجيبُ
فقلت ونحن في بلد حرام
به لله أخلصت القلوب
أتوب إليك يا رحمان مما
جنيت فقد تكاثرت الذنوب
فأما من هوى ليلى وحبّي
زيارتها فإني لا أتوب
فكيف وعندها قلبي رهيناً
أتوب إليك منها أو أُنيب

ويقول ايضا في اِحدى قصايده :
لو كانَ لي قلبان لعشت بواحدٍ
وأفردتُ قلباً في هواكَ يُعذَّبُ
لكنَّ لي قلباً تّمَلكَهُ الهَوى
لا العَيشُ يحلُو لَهُ ولا الموتُ يَقْرَبُ
كَعُصفُورةٍ في كفِّ طفلٍ يُهِينُها
تُعَانِي عَذابَ المَوتِ والطِفلُ يلعبُ
فلا الطفل ذو عقلٍ يرِقُّ لِحالِها
ولا الطّيرُ مَطلُوقُ الجنَاحَينِ فيذهبُ.

اما ( ابو فراس الحمداني ) فسَبَح مع امواج اخرى دافءة مثل امواج دجلة والفراة ، فانشد ما يلي :
نظري الى وجه الحبيب نعيم
وفراق من اهوى علي عظيم
ما كل من ذاق الهوى عرف الهوى
ولا كل من شرب المدام نديم
ولا كل من طلب السعادة نالها
ولا كل من قرأ الكتاب فهيم
مالي لسان ان اقول ظلمتني
والله يشهد انك المظلوم

وعلى منوال من سبق ، استعمل الشاعر ( عبدالنبي النابلسي ) اوتارا اخرى ، مصنوعة من صبابة وازهار اندلسية ، حيت اطرب قايلا :
مَا كُل مَن ذَاق الصَّبابة مُغْرَمٌ
منْ لمْ يَذُقْ طَعمَ الْمَحَبَّةِ مَا مرسْ
أَنا يَا سُعَادُ بحبلِ وِدّكِ واثقٌ
لَم أَنْسَ ذِكْركِ بِالْصَّبَاحِ وفِي الْغَلَسْ
يَا جَنّةً لِلعَاشقيْنَ تزَخرَفَت
جوُدِي بِوَصلٍ فَالمُتيّمُ مَا أَتنسْ

هنا لابد لنا من ان نتوقف قليلا ، وان نبتعد قدر الاِمكان عن زمن زحمة مسرح الحياة ، وعن زخرفها المادي ، وعن عنفها المبثور ، وعن اهدافها الرخيصة ، وعن رونقها المتلاشي الكاذب، وعن مشاهدها الزايفة وعن المنطق وعن العقلانية ، ونحاول ان نغوص وبصدق في كينونة هذه النفس البشرية ، ومحاولة الحُلول محل شعور هؤلاء النبلاء إحساسا بهدف التامل ،والتفكر في هذا المستوى الراقي من الشعور و الذوق والجمال ليس اِلا .

وختاما اقول : ما اكثر دموع مواطني العالم العربي ، ولكن وللاسف الشديد هذه الدموع ليس لها مفعول يوازي قوة و خطورة سم التعبان … !!!
انتهى الكلام

الله غالب
عبدالسلام اضريف

اكمل القراءة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار