الرئيسيةاخبارشبكة الظلال الجزء الاول ضمن سلسلة دماء على البالطو الأبيض
اخبار

شبكة الظلال الجزء الاول ضمن سلسلة دماء على البالطو الأبيض

شبكة الظلال الجزء الاول ضمن سلسلة دماء على البالطو الأبيض

شبكة الظلال الجزء الاول ضمن سلسلة دماء على البالطو الأبيض

د. حسين اسماعيل

 

كانت سمر تتذكر صباح تعيينها كما لو أنه خيط ضوءٍ عالق في نافذة بعيدة؛ خرجت من بيتها بثوبٍ أبيض جديد يلمع كصحنٍ من قمر، وإبرة صغيرة تلمع في جيبها كتميمة، وقلب خفيف يصدّق أن العمل في وحدة الأطفال المبتسرين في المستشفى العام الكبير سيكون بداية حياة ترتدي فيها المعنى. كان اسمها على بطاقةٍ بلاستيكية يتدلّى من صدرها: «سمر عبد الهادي – تمريض». مرّت من بوابة الحديد التي تُصدر صوتًا صدئًا كلما تحركت، حيّت فرد الأمن، صعدت الدرجتين اللتين يعرفهما كل الداخلين والخارجين، ثم دخلت إلى الممر الطويل الذي ينتهي بزجاجٍ يكشف عن حضّانات صغيرة تصدر أنينًا رتيبًا، ووجوهٍ بيضاء خلف الأقنعة تتنقّل حولها كطيورٍ لا تهبط. نسمة باردة من أجهزة التكييف تلامس العرق على جبينها، ورائحة معقّم تفوح كأنها تعميدٌ جديد. في أول يومٍ لها قالت لها الممرضة الأقدم: «هنا يا سمر، الوقت بيتحلّل لثواني، والثانية ممكن تبقى روح». أومأت سمر وهي تحبس ارتباكها وتُسلم يديها إلى التعليمات: قياس حرارة، تثبيت كانيولا دقيقة في يد أصغر من جناح فراشة، مراقبة شاشة تنبض بخطوط زرقاء وخضراء ترقص بين ارتفاعٍ وانخفاض. في الليل، حين تخلع قفازات لاتكس ملتصقة بأطراف أصابعها، تشمّ رائحة مطهر البيتادين وتسأل نفسها بصوتٍ خافت: هل يصل هذا البياض إلى الداخل أيضًا؟

                                                                                                            

مرّ أسبوعان على هذا الإيقاع الدقيق حتى جاءها استدعاءٌ صغير: «الأستاذ حسني عايزك». سألت: «مين الأستاذ حسني؟» فقيل: «صيدلي كبير، ليه كلمة في المستشفى». مضت إلى مكتبه في الجناح الإداري؛ بابٌ خشبي لامع، لوحة نحاسية تحمل اسمًا محفورًا، وجلدة كرسي فارهة لم تر مثلها في أقسام المستشفى. دخلت فوجدته رجلاً في منتصف الأربعين، عيونٌ يقظة خلف نظارات رفيعة، ابتسامة تتحدث قبل فمه، وعلى المكتب ملفات مرتبة ووِعاءٌ صغير من الشوكولاتة. قال وهو يشير إلى الكرسي: «اتفضلي يا آنسة سمر». جلست وهي تراقب دخان سيجارته يدور في الهواء كأفعى مطمئنة. بدأ حديثه كما تبدأ حكايات الأعمام: «أنا متابعك من يومين تلاتة، شغلك نضيف، ووشك مقبول عند الناس. إحنا عاملين مجموعة شغّالة برّه وجوّه، شبكة محترمة: أطباء، تمريض، مسعفين، حتى الأمن. الفكرة بسيطة: لما تلاقي أهل طفل متضايقين، أو الخدمة زحمة ومش مكفّية، تكلّمي رقم ده، نحلّ الموضوع بسرعة: تحويل لمستشفى خاص فيه سرير رعاية جاهز، والدنيا تمشي بسلاسة. وإنتي…» وتوقف لحظة كي يتأكد أن الكلمة ستقع في مكانها، “…ليكي تقديرك. نسبة صغيرة، على قد الحالة”

 

بقيت سمر لحظات تبتلع الكلمة الأخيرة. «نسبة». كلمة ثقيلة، لكنّها انزلقت داخلها منفرشة على مبرراتٍ سريعة: المستشفى فعلاً مزدحم، الأمهات يتعبن في الممرات، حضّانات ممتلئة، أطباء ينامون في كراسيهم من الإرهاق. سألت: «بس… ده قانوني؟» ضحك حسني: «القانون عيل صغير، بنشيله لما يتعب. إحنا بنخدم الناس، وبنظبط حياتنا شوية المريض هيلاقي مكان كويس، وإنتي مش هتفضلي على مرتبٍ حكومي فاكرينّه بدل مواصلات». صمتت. قال وهو يدفع إليها بطاقة عليها رقم: «جربي مرة، ولو لقيتيها حَرّقت ضميرك، ارمي الكارت». خرجت وهي تشعر أن حذاءها صار أثقل، وأن الممر صار أطول من المعتاد

                                                                                                        

في البداية قاومت. كانت تشير على الأهل أن يصبروا نصف ساعة، تتصل بالطوارئ تسأل عن سريرٍ جديد، تلحّ على طبيب النوبتجية أن يمرّ ولو من الباب. لكن المدينة كانت أكبر من صبرها، والممر كان يبتلعها كل نوبة. في ليلةٍ مزدحمة، جاءت أمّ تحمل طفلًا نحيلًا يتلوّى كغصنٍ في ريح، العرق يغطي جبينه، ونَفَسه يلتقط كحجرٍ صغير يصعد ويهبط. قالت الأم وهي تبكي: «بنشوف سرير عناية ولا لأ؟ بقالنا ساعتين». نظرت سمر إلى شاشة الاستقبال، إلى قائمة الانتظار، إلى حضّانات ممتلئة، إلى طبيبٍ يلوّح بيده: «مفيش مكان». سحبت الهاتف من جيبها. الرقم محفوظ. صوتٌ هادئ في الطرف الآخر: «ابعتيلنا الاسم والحالة. عشرين دقيقة والعربية قدام الباب». أرسلت. جاءت عربة الإسعاف الأنيقة بباب جانبي، طاقم مبتسم، ورائحة عطرٍ لا تشبه رائحة الطوارئ. تحرّك الطفل ومعه أوراقٌ مختومة، وودّعت الأم سمر بعينٍ ممتنة، ثم همست: «ربنا يكرمك». بعد ساعة، فتحت سمر درج مكتب التمريض، فوجدت ظرفًا بنيًا نحيلًا. لم تفتحه أمام أحد. وضعته في حقيبتها بجانب علبة سبحتها الصغيرة                   

 

لم تكن المرة الأولى سوى حجرٍ صغير حُرّك من قاع بحيرة. بعده صار الماء كله يميل في الاتجاه. في الأسبوع التالي كانت الأسباب حاضرة: جهاز في الحضانة توقف قليلًا، طبيب تأخر في المرور، أمّ لم تفهم تعليمات الرضاعة الأنبوبية وبكت في الممر، أبٌ صرخ في وجه ممرضة أصغر من ابنته. كل هذه التفاصيل ضغطت على يد سمر كي تتصل. كانت تقول لنفسها: «أنا بخلصهم من ذلّ الانتظار»، وتقول لصورتها في المرآة: «مش حرام إنهم يجدوا رعاية كويسة؟» ثم تنام وتسمع في آخر الليل صوتًا خافتًا يشبه حفيف ورق: «مش كل ما يلمع رعاية». كانت تخنقه. في النهار، عندما تتقاضى ظرفًا آخر، تشتري به شيئًا صغيرًا لأمّها: طرحة جديدة، خلاخيل فضية، علبة كريم لخشونة كعبيها. كان ذلك يهدّئ الخوف في صدرها ويملّح الضمير ليبقى صالحًا للاستعمال 

 

تدريجيًا تغيّر شيء في اللغة. لم يعد سبب التحويل «ازدحامًا» فقط ولا «عطلًا» فقط. صارت الكلمات نفسها تتبدل. في غرفة الممرضات قالت لزميلتها الجديدة: «بصي، الطفل ده محتاج مراقبة مش هنوفرها هنا بسرعة، لو أهلُه ضغطوا شوية هننقله وننقذه»، ثم تخرج إلى الأهل بوجهٍ جاد وتلمّح: «أنا خايفة الوقت يضيع». لم تكذب نصًا، لكنها ارتمت في المنطقة الرمادية بأريحية لم تتخيلها لنفسها. الأظرف تكاثرت كأرنبٍ يتكاثر في ظلام درج، ولم يعد قلبها يخفق عندما تمسّها أصابعها؛ صار الأمر عادة. حسني يفتح لها الباب بابتسامةٍ أكبر كل مرة، يقول: «شُطّارة. الشبكة من غيرك كان هيفوتها كتير». كانت تهز رأسها وتشيح بعينيها عن مرآة على حائط مكتبه تخاف أن تراها                                               

مرت أشهر والمشهد يتكرر كأغنيةٍ تعلق في الأذن. في المكتب الإداري جلس حسني مع طبيبٍ شاب يرتدي رابطة عنقٍ ضيقة وينظر إلى هاتفه أكثر من وجوه الناس. قال له حسني: «سمر بتفهم في قراءة الممرات، بتعرف امتى تِشاور للأهل على الباب اللي ينقذهم». ضحك الطبيب: «وإحنا ننقذ الجميع». ضحك الاثنان، ومعهما ظلٌ ماكر لم يضحك. في البيت، كانت أمّ سمر تمسك «المشطة» الخشبية تمررها في شعرٍ يختلط فيه البياض بالسواد، تقول لابنتها: «إوعى يا بنتي تتركي قلبك لحد، الشغل بييجي ويروح، بس القلب لما يتبهدل ما بيرجعش». كانت سمر تقبّل يدها وتقول: «ما تخافيش» تلك الليلة أعطتها خاتمًا فضيًا صغيرًا، وقالت: ” ألبسيه على طول. يذكرك إنيببصّلك من بعيد”

شبكة الظلال الجزء الاول ضمن سلسلة دماء على البالطو الأبيض

شبكة الظلال الجزء الاول ضمن سلسلة دماء على البالطو الأبيض

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *