المقالات

في النظام المستبد يحتقر الطاغية شعبه

جريدة موطني

في النظام المستبد يحتقر الطاغية شعبه
بقلم / يوسف المقوسي

الذي يحكم كطاغية من دون مؤسسات، يحكم بالأمر؛ أسلوبه عشوائي. تتغيّر قراراته حسب رغباته وانطباعاته. في المجتمع الديمقراطي يضطر الرئيس الى المناورة والتسوية، والى حسابات تأخذ القانون بالاعتبار؛ أسلوبه هو السياسة.

للعشوائية مخاطر كبرى. يصدر الطاغية قرارات، يبيد جماعات، ينسج شبكة من العلاقات. يستفيد منه بعض المتسلقين المنافقين. يمعن في قراراته العشوائية حسب هذا الظرف أو ذاك، أو حسب مصلحة هذه الحاشية أو تلك، أو حسب ضغوطات هذه الدولة أو تلك. يتخلخل المجتمع. تهتز دعائمه. ربما دخل في حرب أهلية إذا كان للطاغية جماعة تدعمه من دون حساب.

في السياسة انتظام للمجتمع. يفرضه تعامل الناس مع بعضهم واضطرارهم للتبادل. تبادل الرأي، والتجارة، والنقاش، والحوار حول كل ذلك .

القانون وحده لا يفرض ذلك، السياسة تفعل. لذلك يكون خطأ القول بحكم القانون والمؤسسات. الحكم بالسياسة هو القول الأصح. في ما يُسمى حكم القانون، يُعاقب المخالفون الخارجون على انتظام المجتمع؛ ولو خرج جميع الناس على الانتظام لما كان مجدياً حكم القانون.
ينتظم المجتمع بالسياسة. يستحيل ذلك مع الأوامر والعشوائية. فوضى الأقطار العربية وحروبها الأهلية ناتجة عن فقدان السياسة واعتماد العشوائية في الحكم، وانتهاء العشوائية حكماً الى الديكتاتورية.

يحتقر الطاغية شعبه. يعتبره مستحقاً للخضوع وتنفيذ الأوامر؛ ليس فقط قابلاً للخضوع بل راغباً به. يعتبر الطاغية شعبه دون مستوى المعرفة الحقة، راغباً بالاستنارة بحكمة الطاغية؛ يبتعد عن شعبه. يعجز عن إدراك ماذا يحتاج أو ماذا يريد. يفصله عن الناس جدار سميك من الجهل. يتهم شعبه بالجهل الذي هو في الحقيقة نابع من ذاته المتعالية المتسلطة، والتي تأبى النقاش والحوار، وترفض الاعتراض رفضاً كاملاً. يعتبر الاعتراض جريمة أو إهانة للشعور القومي؛ وهذه أيضاً جريمة يُعاقب عليها صاحبها.

في نظام يحكمه طاغية، أنت لا تتصرف حسب ما يمليه عقلك أو ضميرك. تنتظر أوامر الطاغية أو ما تعتقد أنه يفكر فيه. تضطر الى إلغاء عقلك وضميرك. تدخل عالم الجهل والنفاق. الفساد ليس مجرد الرشوة والإثراء على حساب الدولة والمجتمع. الأكبر هو انتشار الجهل والنفاق طوعاً أو اضطراراً. فقدان الأخلاق مصدره هذا الفساد الأعمق تأثيراً. الفساد الآخر هو عارضٌ من أعراض نظام الطغيان.

مع مرور الزمن يتحوّل الطغيان الى أسلوب عيش. ما يُسمى تقاليد المجتمع الحياتية والأخلاقية تتحطّم. يسلك الناس على أساس النفاق والدجل (وكل ذلك لإرضاء الطاغية). في مقابل ذلك يحكم الطاغية بعشوائيته. عشوائية الطاغية تُنتج النفاق. يضطر كل مواطن (إذا صحت تسميته كذلك) الى إرضاء الرقيب. يتحدث في العلن لغة أو خطاباً غير ما هو مضمر. يُصاب هذا المواطن بانفصام الشخصية. يصير بشخصيتين، واحدة في المنزل وأخرى في الشارع.
مع فقدان الانتظام في المجتمع، يصاب هذا بالجهل. مع اشتداد الصراع يتحول الى صراع مقدس. حينها لا بد من زج الدين في الصراع لدعم المقدس. يصير الدين محور حياة المجتمع. تنتشر الأصوليات والجهاديات وغيرهما، ليدانا بالإرهاب. يظن الطاغية أنه قد وصل الى شط الأمان. هو يحارب الإرهاب. ينضم حكماً الى ما يُسمى المجموعة الدولية. تتفق أهدافها مع أهدافه. كل منهما يحارب الإرهاب.

في مجتمع سياسي يضطر الجميع الى إظهار ما عندهم. لا يخشى أحد أن يقول ما عنده. يصير المجتمع مفتوحاً. يتلقى الطاغية رغبة وإدراك الجمهور. يضطر الى التقيّد بهما. يتحوّل من حاكم بأمره الى حاكم بإرادة الناس. يكتسب شرعية يفتقد إليها بغير ذلك.

كثيراً ما يضطر المراقب الى رؤية الشجرة من دون الغابة. يرى تصرفات الطاغية، فيلجأ الى تفسيرها بالأسباب المباشرة. يرى الأعراض فيعتقدها أسباباً. يفسّر كل ظاهرة، أو كل حدث بالأسباب المباشرة، ويعجز عن رؤية الأمورفي تطورها، وفي تاريخيتها. لكل حدث أسباب عديدة مباشرة، وأسباب أخرى غير آنية. أسباب ضاربة في عمق التطوّر التاريخي. من دون ذلك يُفقد النقاش، ويفقد التعليل معناه. في حين يتوجب النظر الى الأحداث في عمقها، يناقش الناس الأسباب المباشرة، ويضيع التحليل، إذ لا يرى المحللون المناقشون إلا الأسباب المباشرة.
في السياسة كوابح. كوابح يواجهها الحاكم فلا يتصرف إلا بقدر ما تسمح به أحوال انتظام المجتمع. كوابح أخرى يواججها كل فرد فلا يشتط في الرأي ولا في السلوك. في غياب السياسة تغيب الكوابح. يتصرف الجميع حسب الرغبات الذاتية من دون أخذ الآخرين بالاعتبار. تصل العشوائية الى أعلى مصائرها. يصل الجميع الى حرب أهلية، حيث الكل يحارب الكل في صراع غير مجد.

الحكم بالسياسة هو أن تدير السلطة شؤون مجتمعها، لا أن تصير طرفاً في مواجهة الكتلة الرئيسية منه. تخسر السلطة شرعيتها حين تصير طرفاً في حرب أهلية. ليست السلطة مجرد نزاع على الحكم، بل هي إدارة شؤون المجتمع بمختلف أطرافه. وما من مجتمع في الأرض إلا وفيه تنوعات، واختلافات، وطوائف، وإثنيات. هذه كلها لا يمكن الجمع بينها بالأوامر وحدها بل بالتسويات التي هي جوهر السياسة.

يتوجب علينا حماية السياسة من الطغيان كما حمايتها من الديمقراطية. الديمقراطية تكون أحياناً طريقاً للطغيان عن طريق العشوائية، والحكم بالأمر، وتجييش وتعبئة المشاعر الأولية، والطائفية، والإثنية. الديمقراطية المقرونة بالسياسة هي نقيض الطغيان، لا الديمقراطية وحدها. الطغيان يحوّل الديمقراطية الى مسخرة في انتخابات تكون مجرد تعداد للأصوات. السياسة هي أخذ أصوات الناس الحقيقية بالاعتبار والتصرف على أساسها. حين ذاك يكون الأمر صادراً عن الناس لا عن الطاغية.

اكمل القراءة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار