في رِثاءِ أُمّي
أحمد طاطو
المَوْتُ حَقٌّ والفِراقُ مَرارُ
والصَّبْرُ مَكْرُمَةٌ لنا وفَخَارُ
هَلْ مُتِّ حَقًّا أمْ يُقارِعُكِ الرَّدى
أمْ قَدْ سَقِمْتِ وخانَكِ العَقّارُ
الأُمُّ مَدْرَسَةُ الحَياةِ وكَنْزُها
إنْ غُيِّبَتْ يَجْتاحُنا إقْفارُ
والدَّهْرُ وَحْشٌ قُبِّحَتْ أخلاقُهُ
غَرَزَ النُّيوبَ تَثاقَلَتْ أوْزارُ
يا أيُّها المَوتُ الذي غَرَّرْتَ بي
بِئْسَ النَّزيلُ حَلَلْتَ يا مَكَّارُ
وفِراقُ أُمّي كانَ جَرْحًا دامِيًا
خابَ الرَّجاءُ ومُزِّقَتْ أوتارُ
غابَتْ بِصَمْتٍ جارِحٍ مُسْتَهْجَنٍ
فَتَوَشَّحَتْ بِسَوادِها الأغوارُ
جَفَّتْ دُموعُ المقلَتَينِ تَوَسُّلاً
عَمِيَتْ لهَولِ المُبْتَلى أبصارُ
والنَّفْسُ آلَمَها فِراقٌ مُجْحِفٌ
سَكَراتُ مَوْتٍ شاءَها القَهّارُ
وتَحَشْرَجَتْ روحُ الحبيبةِ حِينَها
وَجَمَ المَدى واحْلَوْلَكَتْ أنوارُ
خَيْرُ النِّساءِ ولا أطيقُ فِراقَها
وجَليسَةُ الأُنْسِ التي أختارُ
يا مَنْ بَكَتْكِ الرّوحُ مَهْلاً جَنَّتي
ما عادَ يَنفَعُ للشَّجى اسْتِعْبارُ
يَتَّمْتِ مِنْ بَعْدِ الرَّحيلِ سَجيَّتي
وتَيَتَّمَتْ مِنْ بَعدِكِ الأعمارُ
يا وَيْحَ قَلبي قَدْ غَدَوْتُ مُشَرَّدًا
مِنْ دونِ حُضْنِكِ أنكَرَتْني الدّارُ
مِنْ دونِ حُضْنكِ قد تَعَرَّى خافِقي
وتَناقَلَتْ صَوْتَ الشَّجى أطْيارُ
كُنْتِ الفَضاءَ لنا نَدُورُ بِفُلْكِكِ
كالشَّمسِ طافَتْ حَوْلَها الأقمارُ
وشَمَخْتِ في وَجْهِ الحَياةِ كَقَلْعَةٍ
نأوي لها والأُمَّهاتُ سِتارُ
يا بيتَ سِرّي يا شِفاءَ تَوَعُّكي
أَرْداكِ حَتْفٌ خاطِفٌ غَدّارُ
مُذْ أودَعوكِ القَبْرَ حَلَّتْ لَعْنَةٌ
ما عادَ يَبْزُغُ في الحَياةِ نَهارُ
اليومَ خانَتْني الدُّموعُ وخانَني
حَرْفُ القَصيدِ وأخفَقَتْ أشعارُ
جفّتْ يَنابيعُ الحَنانِ مَرارَةً
حَلَّ الخَريفُ تَعَرَّتِ الأشجارُ
ما مَرَّ بي عَصْفٌ كَعَصْفِ رَحيلكِ
حتّى الرَّجيفُ مِنَ الأسى يَنهارُ
ما كُنتُ أحْسَبُ أنْ أراكِ دَفينَةً
تَحْتَ الثّرى تَشْتاقُكِ الأنظارُ
كُنتِ العَظيمَةَ والمَليئَةَ عِزَّةً
واليومَ أودَعَكِ الثّرى حَفّارُ
لكنّ رُوحَكِ في السَّماءِ عَزيزَةٌ
ويَذودُ عَنْها الواحِدُ الجَبَّارُ
إنْ غادرَ الجَسَدُ الوجودَ تَيَقَّني
لنْ يَحجُبَ الوَصْلَ الخَفيَّ عَفَارُ
ما أحْقَرَ الدُّنيا تُباعُ وتُشْتَرى
إنَّ الرِّهانَ على البَقاءِ قِمارُ
كأسُ المَنيَّةِ لا مَناصَ لكائِنٍ
مِنْ شُرْبِهِ إنَّ الحياةَ خَسَارُ
إنَّ التَضَرُّعَ غايَتي في مَأتَمي
وعَزاءُ قَلبي سَلْوَةٌ ووَقارُ
يا ربِّ اِرْحَمْ روحَها واغْفِرْ لها
إنَّ الدُّعاءَ لروحِها أَذْخَارُ
هَذي مَشيئَةُ خالِقٍ أدْرى بِها
والرُّوحُ يَمْلِكُ أمْرَها القَهَّارُ
في رِثاءِ أُمّي
أحمد طاطو