قصة من ذكرياتي من الماضي حصلت معي بالفعل. كتب سمير الشرنوبي
كانت ليلة ليلاًء حينما آلمتنى أسنانى وكنت قد تجاوزت العشرين عاما ولم أتحمل هذا الالم الشديد ولم أملك مخزونا من الصبر لأنتظر حتى الصباح لمراجعة طبيب الأسنان القريب جدا من بيتنا
… هاتفت التمورجى الموكل بإدارة العيادة والحجز ولكنه لم يعجبه ذلك فإنهال على بسيل من ألفاظ التوبيخ تارة وكلمات السخرية تارة أخري
… ولم يراعي ما أعانيه من ألم شديد حتى اننى اعتقدت من حدة لهجته وضخامة صوته (فقد كان أجش الصوت ) أنه هو الطبيب
… وكم كانت دهشتى حينما ذكر لى أن الطبيب اقترب من إنهاء عمله وأنه سيؤخره حتى أحضر وهنا اعتقدت أن التمورجى هو صاحب العيادة والطبيب يعمل عنده
… فعندما يتملك السلطة شخص مريض نفسيا بما يسمى داء العظمه ( بارانويا ) وفى نفس الوقت يكون جاهلا بأصول العلاقات الإنسانية والتعامل مع البشر وفى ذات الوقت غبي لم تهذبه ثقافة الحياة ولم يعلمه الدين شيئًا، فإنه يصبح قاس القلب غليظ الطباع لايأبه بمشاعر الضعفاء ولاتهتز له أحاسيس لأنه عديم المشاعر فإن فاقد الشئ لايعطيه
… هذا التمورجى نموذج جلى واضح لما يسمى ( عقدة ممرض الطبيب الناجح ) التي يعرفها الأطباء جيدًا.
… فالطبيب الناجح من أمثال طبيب الأسنان الذى زرته بعيادته والذي يتزاحم المرضى عليه – كان يتوجب علينا أن نظهر الخضوع والتذلل لهذا التمورجى الذى يجلس إلى مكتبه الصغير جدا فى ركن من أركان صالة العيادة ورغم قبح منظره وسوء مدبره وضآلة مكتبه فقد كان يشعرً بضخامة منصبه وأهميته
… فكان يطالع المرضى بنظراته ذهابا وإيابا وينظر إليهم بكبرياء وغرور وعظمة ومن فرط جهله. أحيانا كان يتأمل ويطيل النظر إذا وجد مايسره فى بعض المريضات ولا يصرف بصره إلا بعد أن يقدم خدماته لهن
… كل هذا جعله مع الوقت يوقن أنه مهم جدا لإن الناس تتزاحم أمامه طالبة رضاه والبعض ينتحون به جانبًا ليعطوه رشوة ، والبعض أصحاب المناصب يؤكدون له أنهم مهمون مثله.
… وصل به الغرور ماوصل لدرجة أنه تسرب لنفسه شعور بأنه يملك لهم كل شيء.. يملك أن يسمح لهم بمقابلة آلطبيب ، أو يمنعهم من ذلك فهو إذن يملك شفاءهم أو هلاكهم
… بلغت البارانويا عنده لاعلى درجاتها ومع الوقت أصبح ينتابه شعور مرضى بأنه أهم من الطبيب نفسه بكثير
… يتصرف بكبرياء وغرور مبالغ فيه لا يختلف عن أمثاله. وأعتقد انه أكبر من أن يسيطر عليه الطبيب شخصيا
… أعطاني التمورجى رقم 30 في الحجز !.. وحدد لى الموعد بالدقيقة 10:30 مساء .. وبرر لى أن السبب هو منع الازدحام ولم يهتم بما أعانيه من ألم ، وبصفاقه قال لى : ( لو تأخرت خمس دقائق لضاع دورك ).
… حضرت فى نفس الميعاد وجلست اراقبه فى تصرفاته وردود أفعاله مع المرضى ومن هنا عرفت أنه يتقاضى خمسة ة جنيهات عن كل كشف. وبفضول منى فكرت لو أن الطبيب يفحص خمسين مريض يوميًا – وهذا ممكن – فإن الممرض يحصل على 250 جنيه يوميًا تقريبًا، أي اننا نتكلم هنا عن 7.5 ألف جنيه شهريًا على الأقل وهذا كله مقابل بعض الكلمات : ( لسه قدامك اتنين يا حاج .. اتفضلي يا مدام .. الحجز بالتليفون يا أخينا .. مش عايز اسمع صوت هدوء ياجماعه )
… هذه الوظيفة تغري أي أحد حتى انا نفسي ( سلطه ومال )، فلا مانع في ان يعيش التمورجى حالة البارا نويا هذه وينسى نفسه..
… أحبابى : المعضلة أننا دائما نضع الرجل الغير مناسب فى غير مكانه لو أن شخصًا جاهلاً غبيًا ذو أصل غير طيب– ولا أقصد الغنى و الفقر طبعًا – واعطه سلطة ومال ،مثل التومورجى حتى لو كانت حراسة باب عماره ، سوف يظهر منه أقذر مكونات نفسه المريضة من ألفاظ وسلوك ومعاملات
… للأسف ينطبق هذا على الجميع . ينطبق على بواب يحرس عمارة أو تومرجي في عيادة .. ينطبق على مسئول كبير أو أستاذ جامعي .. ينطبق على ضابط يهابه الجميع .. ينطبق على مذيع فى أحد القنوات ولا يصدق أنه صار بهذه الأهمية والامثلة كثيرة
… ومن ناحية أخرى نكتشف أن ذوي الأصول الكريمة – مهما كانوا فقراء – يزدادون رفقًا وأدبا وتواضعا كلما ترقوا أو اعتلوا مناصب كما يغلب عليهم أصلهم الطيب فيحرصون على أن يرتقوا بمن هم أقل منهم مستوى ويؤدوا واجبهم على أكمل وجه
…. ومن المؤسف ان فرصة المناصب والمراكز لا تتاح لهؤلاء. أولاد الأصول وهم نادرون جدا في هذا العالم
تحياتى وتقديري لمعاليكم الساميه اسعد الله أوقاتكم بكل خير وسعادة يارب العالمين دمتم سالمين آمينين بفضل الله تعالى