الروائي محمد كمال يكتب مراجعة عن رواية “زوارق الموت” للروائي السنغالي عمر لي.
“ليس الزمن ما تُفرزه الساعات والقمران، لكنه تلك الذكريات التي تعترض حياتك.”
– عمر لي/ زوارق الموت.
_____
بتلك القناعة نجا “بلال” لكن السؤال: نجا مِن الموت، أم مِن الحياة؟!
ما الحياة؟ هل هي قضاء أعمارنا في محاولات لإثبات الذات، ولتحقيق مستقبل آمن مفعم بالنجاحات، أم هي أن تقضيها للآخرين، ولاسيما الأهل، داعمًا مُساعدًا، مُضحيًا حتى بالنفس في سبيلهم؟ أعتقد أن موتًا جاء لإحياء أحدهم، ما هو إلّا حياة أبدية نالها المرء، قابعًا في أذهانهم، خالدًا حتى وإن نسوا.. ومن الضروري والواقعي أن ينسوا!
بلال، شاب مفعم بالحياة والأمل، قلبه مليء بالأمنيات، ولديه ما يؤهله لنيلها. لكن هل تكفي المؤهلات لينل المرء ما يتمناه؟ ثمة ظروف قادرة على وأد الحلم، وسحق المواهب.
كأن تيأس من وطن، يعاملك بشتى المعاملات، ولا يعاملك على أنه، لك، وطن! كأن يجبرك الحزن على الإنزواء في جانب ناء من الحياة، مهمش، لا أنت حي فتحيا، ولا أنت ميت فتموت!
بلال كان ذكيًا، نبغ في الدراسة، لكن هل يكفي الذكاء للاستمرار في الدراسة؟! يا لها من مواهب تتعب حاملها أكثر من أن تريحه!
لم تسعفه الدراسة ليسعف ذويه معه، ولم تسعفه الموهبة حين كان يركز هدفه عليها. لكنها فعلت حين أهملها! كأنما لتثبت الحياة نظريتها الأبدية: في اللامبالاة بالأشياء النجاة، فإن تعلقت قتلك التعلق، وكأنه عقاب اهتمامك!
ليس ثمة سعادة طالما أنك محبوب، مسؤول، لك ما تخشى عليه، ويخشى عليك. السعادة – ويا للأسف – أن تكون حرًا من كل شيء، حتى من الأمل.
بلال، خرج متمردًا على واقع “أتيارُوي” في “داكار” ليغامر في بحر هو عدو له، بينهما ثأر؛ التهم من أبناء وطنه الكثير، ومن أهله.
هل سيصل بلال لمبتغاه، أم سيصل لمن فقدهم في البحر، فيصالحه البحر بالتهامه؟! أو ربما يصل، ولا يصل، فيعود وقد أحبطته المحاولة، وصرعته الخيبة، فيقرر نفي نفسه، فيجد في المنفى الخلاص؟!
______
زوارق الموت..
رواية كُتبت بضمير، بعقلانية وواقعية، بحب وحرص على وطن وشعب، بحلم الخلاص من البؤس القائم، وبمنطق من يؤمن بأن لو تحقق كل هذا النبل، فهو من اللامنطق!
لغة عربية جيدة بالنسبة لقلم سنغالي. مفردات سلسة لكنها اُستخدمت بطريقة عميقة، أسلوب سردي بسيط، لا ممل ولا مشوق، لكنه ممتع.
حبكة مُربكة..
ظننت أني متوقعها طوال الرواية، حتى خالفت النهاية ما كنت أظنه. والجميل هو، أنني تنفست بارتياح بعد رحلة شاقة، قاسية، لا إنسانية على الرغم من منطقيتها!
زوارق الموت..
كُتبت بفلسفة وفكر لا أقول عميق، بل نبيل. جعلني هذا النبل أحرص على ألّا تفوتني كلمة أو جملة بدون تركيز وفهم. إنها طيبة قلب الكاتب وإنسانيته التي كنت أشعر بهما طوال القراءة.
لم يكتبها عمر لي على أنها رواية، ولا أشعر أنه عاملها هكذا، بل فرصة للحكي، لإخبار العالم عن بلده ومشاكله، الحالية والقديمة، عن أفريقيا والظلم الذي تعرضت وما تزال تتعرض له، عن العبيد وما لاقوه من أذى وعنصرية ولاإنسانية. عن جزيرة غوري، ومنزل العبيد وعنبر النساء والحوامل والإماء والأطفال وقبو المتمردين وباب اللاعودة.
عمر لي.. روائي سنغالي، عرفته من خلال فوز روايته “زوارق الموت” بالمركز الأول في مسابقة دار ببلومانيا، أحببته في اللّٓه، وشعرت بأني أحتاج أن أتحدث معه.. وفعلت.
_____
اقتباسات من الرواية..
– “هناك في ذلك الزورق سيعتني كل شخص بنفسه ليجد طريقًا للخلاص، سينعته البعض بالأناني، فيما يجد نفسه منافحًا للصواب، قد لا تفهمني إلا عندما تقع في مثل هذه الظروف، سيفهمني ذاك السجين المسكون بالجوع وحوله سجناء مثله، وتلك العجوز التي مات ابنها الوحيد الذي كان يأويها، وذاك الطفل البريء وهو يخاصم رفقاءه لأجل ألعوبته، كلّ هؤلاء سيفهمون كيف يذب المرء عن نفسه بكل استماتة، ويترك للآخر فرصة إثبات ذاته، من دون أن يشعر بالذنب.”
– “لم تكن لتمتاز عن واحدة منهنّ، ولم أكن لأقع في حبها وحدها لولا أن القدر أراد أن يعذبني بها!”
– “أرجو أن نكون محترمين، لسنا مضطرين إلى إظهار عضلاتنا كي نبدو محترمين ولامعين أمام الآخرين، بيد أنّ النّاس سيحترموننا ويحبوننــا حـين يجدون أننا نوظف عضلاتنا توظيفًا يخدم المجتمع خدمة لا تتكئ على هذا الضّوء أو ذاك الصّخب، إنّها خدمة تأتي لوضع اللبنة على الجدار، ثم لا يضيرنا إن لم تحمل اللبنة أسماءنا.”
– “مات وهو البريء المظلوم، مات ولم يحقق أمانيه، لكننا لم ننفق دموعًا، كنا نزعم أنه نجا؛ سيخرج من السجن، وسيوارى عليه التّراب.”
– “كان يصلنا الحشيش بواسطة الحرس، يقبضون علينا هنا جراء تعاطينا الحشيش أو بيعه، ثم يقدمون إلينا الحشيش بسعر خيالي، وكأنّ هذا السجن لم يشَيَّد إلا ليجني الحرس أرباحا هائلة!”
-“أتخيل طفلّا في الثامنة من عمره وقد حيل بينه وبين أمه المحبوسة في عنبر الإماء، أقرأ بصيص الأمل في وجهه الذابل، يزعم أن يومًا سيأتي ليعود مع أمه وليطمئن عليها، من دون أن يعرف أنّ تجار العبيد لم يفرقوا بينهم إلا ليقطعوا هذه الوشيجة إلى الأبد، ستباع الأم في سوق من أمريكا، ويباع الطفل في سوق من أوروبا. وبما أنّ الإنسان الأفريقي طالما استعان باللقب ليعثر على قريبه، فإن الرجل الغربي سيأخذ في محو ألقاب العبيد لينسبه إلى سيده الذي اشتراه، ومن هنا تضيع الأنساب والوشائج كما ضاعت اللغة.”
– “هؤلاء المحظوظون سيصلون وقد تركوا أهليهم ووطنهم وثقافتهم إلى الأبد!”
_____
أي حظ في هذا؟!
إنه حظ الفرار من البؤس والضيّم!