الرئيسيةمقالات” ليلة في قلب الأبدية “
مقالات

” ليلة في قلب الأبدية “

" ليلة في قلب الأبدية "

” ليلة في قلب الأبدية ”

" ليلة في قلب الأبدية "
(الستار يعلو ببطء ، كأن الهواء نفسه ينحني.
صوت ناي مصري قديم يتسلل ، يشبه تنفس الأهرام ف الليل.
القاعة الكبرى للمتحف المصري الكبير مغمورة بنور ذهبي شاحب ، يتساقط على تماثيل الفراعنة كندى من أزمنة منسية)
(طارق يتقدّم بخطوات بطيئة ، بين صفوف التماثيل)
يا وجوه الدهر ، يا صدًى من صخور تُفكّر
أنا ابن زمن نسي كيف يُصغي للدهشة ،
جئتُ أفتش عن النبضة الأولى ،
عن مصر التي لم تغادرني وإن غادرتها.
(ضوء يشتد على تمثال رمسيس الثاني . صمت ثقيل . ثم صوت جهير عميق يخرج من الحَجَر نفسه)
رمسيس :
ومن أنت أيها الواقف بين ظلّين؟
أأنت سليل من حملوا المطرقة أم من باعوا الذاكرة؟
طارق :
أنا الاثنين يا سيدي ، حفيدُ الحلم والخذلان معاً
أتيتُ لا أعبد الحجر، بل أستنطقه.
رمسيس :
قد نُحتَ وجهي من صبر النيل ،
فكيف تُبنى أوطانكم من خوف ورمل؟
أنتم من عبدوا الذهب ، ونسوا النور
غداً سيفتح المتحف أبوابه
فهل تظنون أنكم تستقبلوننا؟
بل نحن من سيستيقظ فيكم
(إضاءة زرقاء خافتة ، يظهر خلف رمسيس نهر من ضوء ، يتحوّل إلى طيف نفرتاري)
نفرتاري ‘ رائحة الورد والدموع ‘ :
يا طارق ، يا من يتنفس دهشة الوجود
هل ما زالت النساء ينسجن الأمل في النيل؟
هل ما زال الغناء طهوراً قبل الفجر؟
طارق :
كان ، ثم صار صدى في شاشات من زجاج،
حتى الأغاني صارت تُقاس بعدد المشاهدات لا بدم القلب.
نفرتاري :
إذاً ضاع الجمال حين استُبدل بالتصفيق
يا رجل العصر ، لا تبحث عن مصر في التاريخ
ابحث عنها في صدرك حين تخاف أن تبكي
(تغيب ببطء ، ويتحوّل الضوء إلى قرمزي كالشفق)
(صوت كهربائي ، ثم يظهر “نور” شاب من ضوء نقي ، عيناه مرايا زمنية ، قادم من عام ٣٠٢٥)
نور :
أنا من الغد البعيد ، من زمنٍ نسي فيه الإنسان أن له قلباً
جئتُ أبحث عن “الروح” التي حُذفت من القواميس
طارق :
وهل وجدتها؟
نور :
كدتُ ألمحها في عينيك حين قلت “نفرتاري”
لكن قول لي ما معنى الدموع؟
طارق :
هي اللغة التي لا تُترجم ،
هي اللحظة التي يتكلم فيها الله من داخلنا
نور :
إذن فأنتم كنتم أقرب إليه منا
نحن نعبد الضوء الاصطناعي ، لا النور الإلهي
(صمت طويل. يعزف نايٌ من بعيد ،
يدخل أخناتون ونفرتيتي في هالة شمسية)
أخناتون :
سلامٌ عليك يا من تذكّر ، أنا صاحب نشيد أتون
كنتُ أول من نادى بالواحد في زمن التعدد ،
فصرتُ غريباً في وطني
قل لي يا ابن الحاضر :
هل عرفتم الإله الواحد أم كثّرتموه في الأجهزة؟
طارق :
كثّرناه يا نبي النور ، لكننا فقدنا القداسة في كل شيء
صرنا نحسب الروح بالحسابات ، ونقيس النور بالوات
نفرتيتي :
جمالي لم يكن وجهاً بل وعياً
هل ما زالت النساء يعرفن أن الجمال فكرة لا جسداً ؟
ليلى الصحفية :
نكتب عن الجمال يا مولاتي ،
لكننا نزيّنه بالفلاتر قبل أن نصدّقه.
نفرتيتي :
إذن فاقدو الجمال يطاردون صورته فقط.
أعيدوا لأنوثتكم الحكمة ، ولعقولكم الحنين
(الموسيقى تتصاعد ، ويدخل موكب من الضوء الذهبي ، تتقدمه حتشبسوت)
حتشبسوت :
أنا التي محوا اسمها من المعابد ،
لكنهم لم يستطيعوا أن يمحوا أثر الخطوة
أنا التي كتبت اسمها على الريح
جئت أقول لكِ يا ليلى :
احكمي نفسكِ أولاً ، ثم احكمي العالم.
ليلى :
يا مولاتي ، ما أصعب أن نحكم في زمنٍ يحاكم المرأة بعينيه.
حتشبسوت :
العين لا تقتل إلا الضعيف
اكتبي اسمكِ بالنور لا بالحبر ، فما يُكتب بالنور لا يُمحى.
(يعلو صوت الطبول ، وتدخل كليوباترا بموكب مهيب
، يختلط فيه البخور بالعطر )
كليوباترا :
أنا التي أحبّت كي تحكم ، وحكمت كي تحبّ.
كل غزوة في حياتي كانت قبلة ،
وكل قبلة كانت معركة.
قل لي يا طارق ، هل ما زال الحب يغيّر العالم؟
طارق :
كان يغير يا سيدتي ،
لكنهم الآن يحبّون عبر رموز صغيرة على الشاشات
كليوباترا :
إذن مات الخطر ، والحب بلا خطر ، كعرش بلا نيل
(تضحك ، ثم تهمس)
اجعلوا الحب ثورةً لا عادة
(تختفي في ضوء بنفسجي عميق ،
ثم يظهر الطفل توت عنخ آمون ، متلألئاً كحلم)
توت :
أنا الصغير الذي مات صغيراً
لكني سكنت ذاكرة الكواكب.
قالوا “لعنته”، ولم يعرفوا أني بركة
هل ما زال الأطفال يحلمون في عصركم؟
نور :
أبقيناهم على قيد الحياة ،
لكننا قتلنا البراءة فيهم خوفاً من الفشل
توت :
البراءة ليست جهلاً ، بل معرفة بلا خوف
أعيدوا الطفولة إلى قلوبكم ، فهي المفتاح الوحيد للأبدية
(يدور الضوء حول الجميع ، كأن الزمن كله يجتمع في نبضة واحدة ، الموسيقى ترتفع لتبلغ ذروتها )
رمسيس :
كفى حديثاً يا أحفادي.
إننا لم نُخلق لنُعرض في زجاج بارد
بل لنتنفس فيكم
طارق :
غداً حين يُفتح المتحف
لن يكون افتتاحاً بل قيامة!
ستخرج مصر من الصمت إلى النور
من الغياب إلى الصوت
ليلى :
سأكتب في مقالي غداً :
لم يُفتح المتحف ، بل استيقظت مصر في قلب نفسها
نور :
سأقول في المستقبل :
رأيت الماضي يبكي فرحاً بلقاء أحفاده
رمسيس :
أنتم امتدادنا لا جمهورنا
الزمن دائرة ، والخلود كلمة لا تنتهي
الجميع حول طارق بصوت واحد :
يا مصر
يا لحظةً من أبدٍ لا يزول
نحن نبضك الذي لا يموت
فانهضي بنا ، لا إلينا.
(الضوء يصعد حتى يغمر القاعة كلها.
ترتفع موسيقى الناي ، يمتزج بها خرير ماء النيل
وصوت الريح في الصحراء )
طارق بصوت خافت كصلاة :
التاريخ ليس حجارة ، بل أنفاس تتنفس فينا.
نحن مصر ، من همسة الخلق إلى صرخة الخلود
(الستار يهبط ببطء ، ثم يظهر عنوان نهائي على شاشة ذهبية )
غداً ليس يوماً ، بل قصيدة الدهر
ستار
طارق غريب
واحد من أهل مصر

” ليلة في قلب الأبدية “

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *