الرئيسيةمقالاتمسافة الامان بين الحدث والوعي
مقالات

مسافة الامان بين الحدث والوعي

مسافة الامان بين الحدث والوعي
بقلم/نشأت البسيوني

في كل مرة يظن فيها الناس انهم اعتادوا المفاجآت تأتي الوقائع لتؤكد ان الواقع ما زال قادرا على ارباك الحسابات فالحدث لا يطرق الابواب بهدوء بل يقتحم اللحظة ويعيد ترتيب المشاعر والافكار ويضع الانسان وجها لوجه امام اسئلة لم يكن مستعدا لها

هذا المقال لا يقف عند تفاصيل ما جرى ولا ينشغل بتكرار المشهد بل يحاول الاقتراب من تلك المسافة الخفية بين وقوع الحدث وولادة الوعي تلك المسافة التي تحدد ما اذا كانت التجربة ستمر عابرة او ستترك اثرا يغير طريقة النظر الى الحياة والامان والمسؤولية

حين يقع امر غير متوقع يتساوى الجميع للحظة في الشعور بالدهشة ثم يبدأ الاختلاف فهناك من يتوقف عند الصدمة وهناك من يحولها الى فهم وهناك من يبحث عن صوت مرتفع يلومه وهناك من يختار الصمت ليرى الصورة كاملة وهذا الفارق هو ما يصنع مستقبل المجتمعات لا الحدث نفسه

الناس في قلب الوقائع لا يعيشونها كما تظهر في الصور ولا كما تختصر في الاخبار هم يعيشون دقائق طويلة من القلق والتفكير ومحاولات الفهم يعيشون الخوف على انفسهم وعلى غيرهم ويحسبون الخطوة القادمة الف مرة قبل ان يخطوها وهذه المشاعر لا تظهر في العناوين لكنها الحقيقة الاكثر عمقا

الامان اليومي الذي يبدو بسيطا في العادة هو في حقيقته نتيجة جهد طويل وتفاصيل دقيقة حين يختل جزء واحد يظهر الاثر سريعا ويشعر الجميع ان ما كان مسلما به يحتاج الى اعادة نظر وهنا تصبح الوقائع دروسا قاسية لكنها ضرورية

الوعي لا يولد من الخوف وحده بل من القدرة على تحويل الخوف الى مسؤولية ومن تحويل التجربة الى معرفة ومن طرح الاسئلة الصعبة دون ان يتحول الامر الى صراع او اتهام فالغاية ليست البحث عن مذنب بقدر ما هي البحث عن طريق افضل

وفي زمن تتسارع فيه الاحداث يصبح التمهل قيمة نادرة لكن ضرورية فالتفكير الهادئ بعد العاصفة هو ما يمنع تكرارها وما يحمي الناس من دفع الثمن مرة اخرى دون داع

المجتمع الذي يتجاوز الازمات هو ذاك الذي ينصت لاصوات العقل قبل ضجيج الانفعال ويمنح الانسان مكانه الطبيعي في قلب كل قرار ويعتبر ان الوقاية اهم من رد الفعل وان التعلم اهم من النسيان

ولا يمكن لاي تجربة قاسية ان تؤتي ثمارها ما لم تتحول الى وعي جماعي ينعكس في السلوك قبل الشعارات وفي الالتزام قبل الكلام فالمعرفة الحقيقية هي التي تغير التصرف لا تلك التي تكتفي بالتشخيص

ومع مرور الوقت تبقى الاسئلة الاكثر صدقا هي تلك التي تتعلق بالانسان كيف نحميه كيف نخفف عنه كيف نجعل يومه اكثر امانا لا بالشعارات بل بالفعل والعمل والمتابعة

هكذا لا تبقى الوقائع مجرد ذكريات ثقيلة بل تتحول الى علامات على الطريق تذكر الجميع ان الحياة لا تطلب الكمال بل تطلب الانتباه وان الامان لا يصنعه الحظ بل تصنعه العقول الواعية والضمائر الحية

وفي النهاية لا يقاس نضج المجتمعات بعدد ما تواجهه من احداث بل بكيفية خروجها منها اكثر فهما اكثر حرصا اكثر قربا من الانسان لان الانسان كان وسيبقى هو المعنى الحقيقي لكل ما يحدث

ومن هنا تصبح المسؤولية مشتركة لا تقبل التجزئة مسؤولية تبدأ من الفرد الذي يعي خطورة الاستهانة وتمر بالمجتمع الذي يرفض التطبيع مع الخطر وتنتهي بالمؤسسات التي تدرك ان دورها الحقيقي لا يقاس بردود الافعال بل بقدرتها على المنع والاستباق

فالوقائع لا تطلب منا الحزن فقط بل تطلب الفهم ولا تبحث عن تعاطف عابر بقدر ما تحتاج الى يقظة دائمة تجعل كل تجربة مهما كانت قاسية خطوة نحو واقع اكثر تماسكا واكثر عدلا واكثر احتراما للحياة

وحين نصل الى هذه المرحلة يصبح الحدث نقطة تحول لا عبئا على الذاكرة ويصبح الالم دافعا للتصحيح لا سببا لليأس وتتحول المخاوف الى وعي يحرس الطريق بدل ان يعطل المسير

هكذا يكتمل المعنى وهكذا فقط يمكن القول ان ما حدث لم يذهب سدى بل ترك اثرا ايجابيا في الوعي الجمعي اثر يذكر الجميع ان الانسان هو الغاية وان سلامته هي المقياس الحقيقي لكل تقدم وان المجتمعات التي تحسن التعلم من لحظاتها الصعبة هي الاقدر على صناعة مستقبل يستحق ان يعاش

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *