منة العبد تكتب عن السوشيال ميديا: حين يتحوّل الاتصال إلى اغتراب.
بقلم /منة العبد مديرة الديسك لجريدة موطني
الموافق /الجمعة ١٩ ديسمبر ٢٠٢٥
لم تُخلق السوشيال ميديا لتكون شرًا، لكنها تحوّلت مع الوقت إلى مرآة مشوّهة للوجود الإنساني. لم تعد وسيلة تواصل بقدر ما أصبحت سلطة خفية تُعيد تشكيل الوعي، وتفرض إيقاعها على النفس، وتُعيد تعريف القيم دون أن نشعر. إنها لا تغيّر ما نراه فقط، بل تغيّر كيف نفهم أنفسنا والعالم.
في جوهرها، تدفع السوشيال ميديا الإنسان إلى العيش خارج ذاته. فبدل التأمل، هناك تمرير. وبدل المعنى، هناك صورة. وبدل العمق، هناك انطباع سريع. هذا الانفصال التدريجي عن الداخل هو بداية الاغتراب؛ اغتراب الإنسان عن نفسه، وعن أسرته، وعن إيمانه.
الأطفال: وعي يُصاغ قبل أن يكتمل
أخطر ما فعلته السوشيال ميديا أنها دخلت إلى عقول الأطفال قبل أن تتكوّن لديهم القدرة على التمييز. الطفل الذي لم يتعلّم بعد معنى القيم، بات يتلقى نماذج جاهزة للحياة: عنف، استهلاك، شهرة، ومقارنات. هنا لا ينمو الوعي، بل يُستبدل.
يكبر الطفل وهو يقيس ذاته بعدد المشاهدات، لا بعدد القيم التي يحملها، فينشأ هشًّا، سريع الغضب، قليل الصبر، مشتت الانتباه، بعيدًا عن الطمأنينة التي يحتاجها لينمو سليمًا.
البيوت: حاضرة شكليًا… غائبة معنويًا
في البيوت، تجلس الأجساد معًا، لكن الأرواح متفرقة. كل فرد ممسك بشاشته، يعيش عالمًا منفصلًا. اختفى الحوار، وضعف الإصغاء، وتآكلت المساحات المشتركة.
السوشيال ميديا لم تُحدث الخراب فجأة، بل بالتدريج: صمت طويل، مقارنة صامتة، شكوك، تدخل غرباء في خصوصيات البيوت، ونقل مشكلات الحياة الزوجية إلى فضاء عام لا يعرف الرحمة.
من المقارنة إلى الطلاق
حين يرى أحد الطرفين حياة الآخرين “المثالية”، يبدأ الشك في حياته الواقعية. تتحوّل العلاقة إلى مقارنة، والمودة إلى تقييم، والصبر إلى عبء.
كثير من البيوت لم تُهدم بسبب خيانة جسدية، بل بسبب خيانة الانتباه؛ حين يُمنح الهاتف ما لا يُمنح للشريك، وحين تصبح الشاشة أقرب من الإنسان الجالس في نفس الغرفة.
وهكذا، يتسلل الفتور، ثم الجفاء، ثم الطلاق.
قلة الدين وقلة الإيمان
الإيمان يحتاج سكونًا، والسوشيال ميديا تقتل السكون. يحتاج حضور القلب، وهي تشتته. تحتاج محاسبة النفس، وهي تُغرقها في المقارنة بالآخرين.
مع كثرة الانشغال، تضعف الصلة بالله، لا عن إنكار، بل عن غفلة. تتحول العبادات إلى عادة، والقيم إلى شعارات، ويضيع الميزان الأخلاقي وسط طوفان المحتوى.
قلة الإيمان هنا ليست كفرًا، بل فراغًا روحيًا لم يُملأ بشيء.
سؤال وجودي أخير
هل نحن من نستخدم السوشيال ميديا، أم هي من تُعيد تشكيلنا؟
وهل نعيش حياتنا حقًا، أم نعرضها للآخرين ونكتفي بالمشاهدة؟
في النهاية، المشكلة ليست في التقنية، بل في غياب الوعي.
الإنسان الذي لا يملك معنى، تسرقه أي شاشة.
والبيت الذي لا تحكمه قيمة، تهزّه صورة.
والقلب الذي لا يمتلئ بالإيمان، يضيع في الزحام.
نحن لا نحتاج إلى حذف التطبيقات،
بل إلى استعادة الوعي، والروح، والمعنى.

