منة العبد تكتب عن الصمت الداخلي حين يهدأ العالم داخلنا
بقلمي/منة العبد
الصمت الداخلي ليس غياب الأصوات من حولنا، بل غياب الفوضى من داخلنا. هو تلك الحالة النادرة التي تتوقف فيها الضوضاء النفسية، وتسكن الأفكار المتصارعة، ويعود الإنسان إلى ذاته دون خوف أو هروب. في عالم يصرخ بلا توقف، يصبح الصمت الداخلي فعل مقاومة ونجاة.
نحن لا نعاني من كثرة الكلام بقدر ما نعاني من كثرة التفكير. الأفكار المتراكمة، المخاوف المؤجلة، الأسئلة التي لا تجد إجابة، كلها تصنع ضجيجًا داخليًا يفوق أي صوت خارجي. الصمت الداخلي هو القدرة على النظر إلى هذه الفوضى دون أن نغرق فيها، أن نسمع أفكارنا دون أن نستعبد لها.
في الصمت الداخلي، نلتقي بأنفسنا الحقيقية. تسقط الأقنعة التي نرتديها أمام الآخرين، ويخفّ ثقل التوقعات، ويتراجع الخوف من الحكم. هنا فقط نعرف ما نريده حقًا، لا ما اعتدنا قوله، ولا ما فُرض علينا. إنه لحظة صدق خالية من التزييف، لا تحتاج شاهدًا ولا تصفيقًا.
الصمت الداخلي ليس فراغًا، بل امتلاء بالوعي. هو مساحة نعيد فيها ترتيب مشاعرنا، ونفهم آلامنا بدل إنكارها. كثير من الناس يهربون من هذا الصمت لأنهم يخشون ما سيظهر فيه: وجع لم يُعالج، أو حقيقة لم تُقبل بعد. لكن الشفاء لا يبدأ بالكلام، بل بالإنصات.
كما أن الصمت الداخلي هو أساس السلام النفسي. حين يهدأ الداخل، تقل ردود الفعل العنيفة، ويصبح الإنسان أكثر اتزانًا وأقل اندفاعًا. لا يعود أسيرًا لكل كلمة تُقال، ولا لكل موقف عابر. الصمت الداخلي يمنحنا مسافة بيننا وبين العالم، نحمي بها أنفسنا دون أن ننفصل عنه.
وفي زمن السرعة والتشتت، أصبح الصمت الداخلي عبادة غير معلنة. هو لحظة اتصال أعمق بالله، حين يسكن القلب قبل اللسان، وحين يصبح الدعاء شعورًا لا كلمات فقط. فالقلب الصامت بصدق، أقرب للفهم، وأقرب للطمأنينة.
في النهاية، الصمت الداخلي ليس هروبًا من الحياة، بل استعدادًا لمواجهتها بوعي.
من امتلك هذا الصمت، امتلك نفسه…
ومن امتلك نفسه، لم يعد العالم قادرًا على كسره.

