من جعجعة الهيمنة إلى واقع الاستسلام .. انقلاب لعبة ترامب مع الصين
أبوالياسين:
في عالم يعتقد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أنه يمكن قيادته بقوة الصفعات الجمركية والخطاب العدائي، تواجه استراتيجيته التجارية الحادة اختباراً قاسياً أمام جدار الاقتصاد الصيني المنيع. بعد سنوات من “الجعجعة” السياسية والوعود الصاخبة بنصر ساحق، يكشف المشهد الاقتصادي الراهن قصة مختلفة تماماً: قصة تراجع واستسلام. فبينما بلغ فائض الصين التجاري مستوى تاريخياً غير مسبوق، يتكبد الاقتصاد الأمريكي وحلفاؤه التكاليف الباهظة لحرب لم تحقق أياً من أهدافها المعلنة. هذا التحول الدراماتيكي من وضع “الشرطي العالمي” إلى موقع “المستسلم” ليس مجرد نكسة تكتيكية؛ إنه إعلان صارخ عن تحول موازين القوى العالمية، حيث يبدو أن العجرفة السياسية قد استسلمت لقوانين الاقتصاد والجغرافيا السياسية التي لا ترحم.
فشل الذراع الجمركية: عندما تصبح الرسوم سلاحاً ذا حدين
شنت إدارة ترامب حرباً تجارية شاملة، مستخدمة التعريفات الجمركية كسلاح رئيسي لإجبار الصين وحلفاء أمريكا على الانصياع لإرادتها. وبلغت الذروة برفع الرسوم على الواردات الصينية إلى نسبة صادمة تبلغ 145%. لكن النتائج جاءت عكسية تماماً. لم تؤد هذه الرسوم إلى إضعاف الاقتصاد الصيني، بل حولته إلى قوة تصديرية أكثر مرونة. في المقابل، يتحمل الأمريكيون العبء المباشر لهذه السياسات، حيث تُقدر التكلفة الإضافية بــ 1,100 دولار لكل أسرة أمريكية في عام 2025. كما تشير تقديرات مؤسسة “تاكس فاونديشن” إلى أن هذه السياسات ستؤدي إلى خسارة ما يقرب من نصف مليون وظيفة في الولايات المتحدة على المدى الطويل، فضلاً عن تخفيض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.5%. لقد تحولت الأداة التي وصفها ترامب بأنها “الأفضل” إلى فخ اقتصادي خانق للداخل الأمريكي قبل أي طرف آخر.
المرونة الاستراتيجية للصين: قلب الهزيمة إلى انتصار تاريخي
في مواجهة الضغط الأمريكي، لم تكتف الصين بالرد بالمثل، بل أظهرت براعة استراتيجية حوّلت التحدي إلى فرصة غير مسبوقة. الرد الصيني لم يقتصر على فرض رسوم جمركية بنسبة 34% على السلع الأمريكية، بل تجاوزه إلى سلاح أكثر حدة: التحكم في صادرات المعادن الأرضية النادرة التي تسيطر الصين على 90% من إنتاجها العالمي. هذا التحكم يعطي بكين “مفاتيح إيقاف” قادرة على شل قطاعات صناعية حيوية عالمياً، من السيارات الكهربائية إلى الطائرات المقاتلة. وفي الوقت نفسه، نجحت الصين في تحويل مسار تجارتها، حيث ارتفعت صادراتها إلى الاتحاد الأوروبي بنسبة 15%، وإلى دول جنوب شرق آسيا بنسبة 8.2%، معتمدة على سلع التكنولوجيا العالية والسيارات الكهربائية التي قفزت صادراتها إلى حوالي 6.5 مليون وحدة. هذه المناورة حولت فائضها التجاري إلى رقم قياسي بلغ تريليون دولار لأول مرة في التاريخ، وهو رقم يضع نتائج الحرب التجارية في إطارها الحقيقي: انتصار صيني ساحق.
من جعجعة الهيمنة إلى واقع الاستسلام .. انقلاب لعبة ترامب مع الصين
الأضرار الجانبية: تداعي التحالفات وارتدادات سياسية داخلية
أدت سياسات ترامب الأحادية إلى اهتزاز أسس النظام التجاري العالمي وتصدع تحالفات واشنطن التاريخية. فحتى الحلفاء التقليديون مثل كندا تعرضوا لتهديدات جمركية وصلت إلى 35%، باستخدام ذرائع سياسية مثل ملف الاعتراف بدولة فلسطينية. هذه الإجراءات دفعت دولاً مثل كندا والهند إلى التطلع لأسواق جديدة وشركاء أكثر “ثقة”، بل وإلى تقريب العلاقات مع الصين نفسها كرد فعل على الضغوط الأمريكية. وفي الداخل الأمريكي، يظهر الانقسام جلياً بين خطاب القوة وبين تكاليف سياسية ملموسة. ففيما يواصل ترامب تصريحاته التي تستهين بتراجع الأسهم وتصف رد الصين بـ”الذعر”، يحذر رئيس مجلس الاحتياطي الاتحادي جيروم باول علناً من أن الرسوم الجمركية “أكبر من المتوقع” وتزيد من مخاطر التضخم وتباطؤ النمو. لقد أصبحت التكلفة الاقتصادية والسياسية للحرب التجارية عبئاً ثقيلاً، يدفع حتى داخل الإدارة الأمريكية إلى التساؤل عن جدوى استمرارها.
مستقبل المواجهة: هل السلام المستحيل هو الخيار الوحيد؟
يطرح الواقع المرير أسئلة مصيرية عن نهاية هذه المواجهة. تحليل “نظرية النصر” للصراع يشير إلى أن أهداف ترامب ليست اقتصادية بحتة، بل هي “عاطفية” في جوهرها، تهدف إلى “استعادة الشعور بالقوة الوطنية” و”تأكيد الهيمنة الأمريكية”. لكن هذه النظرية تصطدم بحقيقة أن بكين تمتلك أدوات ردع قوية وفعالة، وأن قدرتها على إلحاق الألم الاقتصادي بأمريكا وحلفائها تفوق بكثير قدرة واشنطن على إضعافها. التوقعات تشير إلى استمرار نمو حصة الصين من صادرات العالم لتصل إلى 16.5% بنهاية العقد. في هذا السياق، يبدو أن السيناريو الأكثر واقعية هو الوصول إلى “هدنة مسلحة” تشبه الحرب الباردة، حيث يمنع الخوف من الدمار المتبادل التصعيد الكامل، دون أن يحقق أي طرف نصراً حاسماً. أما الخيار الآخر، وهو الاستمرار في التصعيد، فيهدد بإغراق الاقتصاد العالمي في دوامة ركود، حيث يرى بنك “جيه.بي. مورغان” احتمالية 60% لحدوث ركود عالمي.
هدنة المهزوم… عندما تفضح الأرقام خطاب القوة
في النهاية، تكشف الأرقام الصامتة ما لم تعترف به الخطابات الصاخبة. ذلك الرقم المهول، تريليون دولار فائضاً تجارياً للصين، هو النصب التذكاري الأكثر وضوحاً لهزيمة الإستراتيجية الأمريكية. لقد تحولت الحرب التي قادها ترامب لـ”معاقبة” بكين و”استعادة” الهيمنة، إلى درس قاس في الجغرافيا الاقتصادية السياسية الحديثة. لقد أثبتت الصين أنها ليست سوقاً يمكن تخويفه، بل هي نظام اقتصادي-سياسي ضخم قادر على تحويل مسار أنهار التجارة العالمية، وإعادة تشكيل تحالفاتها، والتحكم في نبض الصناعات الأكثر تقدماً. أما الادعاءات الأمريكية بإمكانية “عزل” الصين، فقد تحطمت على صخرة اعتماد العالم المتشابك على سلاسل إمدادها. ما نشهده اليوم ليس مجرد تراجع تكتيكي، بل هو اعتراف عملي، وإن كان غير معلن، بأن عصر الهيمنة الأحادية قد ولى. المستقبل الذي يلوح في الأفق لا يحمل انتصاراً لأحد، بل يحمل “سلاماً مجهداً” تُفرض فيه قواعد جديدة للتعايش القسري بين عملاقين، حيث القوة لم تعد حكراً على من يرفع صوته أعلى، بل لمن يتحكم في الموارد والإمدادات والتقنيات التي يحتاجها العالم بأسره. إنها هدنة، لكن شروطها يكتبها من كان يُظن أنه الطرف الأضعف.
من جعجعة الهيمنة إلى واقع الاستسلام .. انقلاب لعبة ترامب مع الصين


