من قناة السويس إلى بوابة الخلود: مصر تُعيد كتابة التاريخ في احتفال المتحف المصري الكبير
بقلم: الجيوفيزيقي محمد عربي نصار
عودة الصوت المصري الذي أدهش العالم
في 17 نوفمبر عام 1869، أضاءت مصر سماء العالم بافتتاح قناة السويس في احتفال أسطوري دعا إليه الخديوي إسماعيل ملوك وأباطرة أوروبا، في مشهدٍ جعل باريس ولندن تتحدثان عن القاهرة الجديدة التي تنافس العواصم الأوروبية. كانت السفن الملكية تمخر عباب البحر تتقدّمها يخت الإمبراطورة أوجيني، فيما تصدح الموسيقى العسكرية وتُضاء الشرفات بالأنوار والحرير، في ليلةٍ وُصفت بأنها «عرس الشرق».
واليوم، وبعد 156 عامًا، يتكرر المشهد ولكن على أرضٍ أخرى وبمعنى آخر؛ ففي 1 نوفمبر 2025، تقف مصر من جديد أمام العالم لتقول كلمتها، وهي تفتتح المتحف المصري الكبير — أضخم متحف في التاريخ مكرّس لحضارة واحدة، في احتفال عالمي يعيد إلى الأذهان سحر ليلة السويس الأولى.
الخديوي إسماعيل… وميلاد مصر الحديثة
حين حلم الخديوي إسماعيل بأن تكون مصر «قطعة من أوروبا»، لم يكن يتحدث مجازًا.
فقد أنفق ملايين الجنيهات في بناء مدينة الإسماعيلية، وتزيين القاهرة، وتشييد دار الأوبرا الخديوية، وأرسل آلاف الدعوات إلى العواصم الأوروبية لحضور حدث القرن: افتتاح قناة السويس، المعجزة التي ربطت البحرين وفجّرت موازين التجارة والسياسة.
جاءت الإمبراطورة أوجيني، إمبراطور النمسا، ولي عهد بروسيا، وملوك من كل القارات، ليشهدوا حفلًا لم تعرف له المنطقة مثيلًا.
كانت مصر في تلك الليلة مركز الكون، وكتب المؤرخون أن “العالم استيقظ على اسمها من جديد”.
الهدف لم يكن القناة فقط، بل أن يقول إسماعيل إن مصر ليست تابعة، بل قائدة؛ دولة تملك الإرادة والعقل، وتستطيع أن تبهر العالم بمزيج من الأصالة والحداثة.
2025… مصر تستعيد مجدها في عباءة جديدة
في العام 2025، وبعد أكثر من عقدين من العمل المتواصل، يفتتح الرئيس عبد الفتاح السيسي المتحف المصري الكبير — الحلم الذي بدأ في مطلع الألفية وتحول إلى أيقونة معمارية على أعتاب الأهرامات.
يمتد المتحف على مساحة 50 هكتارًا، ويضم أكثر من 100 ألف قطعة أثرية، بينها كنوز الملك توت عنخ آمون في عرضٍ كاملٍ للمرة الأولى منذ اكتشافها.
الاحتفال الموعود ليس مجرد حدث ثقافي؛ إنه إعلان عن عودة مصر الحضارية إلى الصدارة.
العروض الضوئية، الإبهار البصري، موسيقى الأوركسترا الوطنية، واستعراض التكنولوجيا التي تُبرز عبقرية الفراعنة، كلها عناصر تجعل العالم يعيد اكتشاف معنى «الدهشة المصرية».
الفرق الزمني بين احتفال 1869 و2025 يزيد على قرن ونصف، لكن المعنى واحد:
في الحالتين، كانت مصر تقول للعالم إنها قلب التاريخ ومركز الجغرافيا.
وجه الشبه بين الاحتفالين… عبور البحر وعبور الزمن
1. رسالة إلى العالم:
في القرن التاسع عشر، كانت القناة تعلن ميلاد مصر كجسرٍ يربط الشرق بالغرب.
وفي القرن الحادي والعشرين، المتحف يعلن ميلاد مصر كجسرٍ يربط الماضي بالمستقبل.
2. الرمزية السياسية والحضارية:
إسماعيل أراد استقلال القرار المصري ورفع شأنها أمام أوروبا.
والسيسي يرسّخ مفهوم «الجمهورية الجديدة» التي تُعيد صياغة هوية الدولة الحديثة بثقة واعتزاز.
3. الاحتفال بوصفه أداة دبلوماسية:
دعوة ملوك وأباطرة أوروبا إلى السويس كانت أول دبلوماسية ناعمة في الشرق الأوسط.
واليوم، يحضر قادة وسفراء العالم حفل المتحف، ليشهدوا على استمرار تلك المدرسة المصرية في إدارة الصورة والرمز.
4. البهاء الفني والتقني:
حينها كانت الموسيقى الكلاسيكية والمواكب الملكية هي لغة الإبهار.
اليوم، تتحدث الإضاءة الثلاثية الأبعاد، والطائرات المسيّرة، وتقنيات الواقع المعزز عن نفس البراعة ولكن بأدوات العصر.
قناة السويس… عبور البحر
في 1869، كانت القناة تمثل عبورًا مائيًا غير مسبوق في التاريخ، فبفضلها تغير وجه الملاحة العالمية وأصبحت مصر مركز التجارة بين الشرق والغرب.
لقد حفرت الأيدي الأرض لتربط بحرين، وحررت الإرادة الوطنية نفسها من حدودها الجغرافية.
المتحف الكبير… عبور الزمن
في 2025، لا يُعاد فتح طريقٍ مائي، بل طريقٍ روحي ومعرفي، يربط الإنسان بذاكرته الحضارية الممتدة منذ آلاف السنين.
المتحف ليس جدرانًا وحجرًا، بل ذاكرة حية تتحدث بكل اللغات، وتقول:
«هنا بدأ التاريخ… وهنا يعود ليتنفس من جديد».
من أوجيني إلى ضيوف العصر… التاريخ يعيد نفسه
في احتفال قناة السويس، جلست الإمبراطورة أوجيني في شرفتها الملكية تتابع الموكب المهيب؛
وفي احتفال المتحف المصري الكبير، ستجلس وجوه من كل الأمم في مقاعد مضاءة أمام الأهرامات، تنصت إلى موسيقى النيل القديمة.
الأزياء تغيرت، والتكنولوجيا تغيرت، لكن هيبة مصر لم تتغير.
فكما كان الخديوي إسماعيل يرفع الستار عن مجدٍ مائيٍّ يربط القارات، يرفع اليوم المصريون الستار عن صرحٍ يربط الحضارات.
خاتمة: عندما تتكلم مصر… يصمت التاريخ احترامًا
من قناة السويس إلى المتحف المصري الكبير، تسير مصر على نفس الدرب:
درب الإبهار، والريادة، والعطاء للعالم.
في الأولى، فتحت للعالم طريقًا نحو المستقبل التجاري،
وفي الثانية، تفتح له بوابة نحو الماضي الأبدي.
إنه ليس مجرد احتفال، بل قسم جديد في سفر الحضارة.
فكلما حاول
العالم أن يكتب تاريخًا جديدًا،
تأتي مصر لتذكّره أن التاريخ يبدأ دائمًا منها.


