موطن الصبا وبلوغ الشباب
بقلم / محمـــد الدكـــروري
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين حق قدره ومقداره العظيم، ثم أما بعد إن حب الوطن هو فطرة في داخل الإنسان، ينبض به قلبه، ويجري به دمه، ولو كان الوطن كثبان رمل بصحراء، أو تعرض فيه للأذى والبلاء، وإن غادر الإنسان وطنه لضرورة يبقى الشوق والحنين إليه ساكنا في نفسه ووجدانه، فإنه المكان الذي وُلد وتربى ونشأ فيه، فالوطن فيه ذكريات لا تنسى، فيه الأبناء والآباء والأجداد، والأهل والأحباب والأصحاب، وقال الغزالي ” والبشر يألفون أرضهم على ما بها.
ولو كانت قفرا مستوحشا، وحب الوطن غريزة متأصلة في النفوس، تجعل الإنسان يستريح إلى البقاء فيه، ويحن إليه إذا غاب عنه، ويدافع عنه إذا هوجم، ويغضب له إذا انتقص ” وهذا الحب للوطن عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم في بداية بعثته وحين هجرته، ففي بداية نزول الوحي عليه صلى الله عليه وسلم بغار حراء ذهب مع زوجته خديجة رضي الله عنها إلى ورقة بن نوفل، وقصّ عليه ما حدث معه من أمر نزول جبريل عليه، وورقة يفسر له ذلك حتى قال “ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مخرجيّ هم؟ قال نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا” رواه البخاري، وقال السفيري في قوله صلى الله عليه وسلم ” أو مخرجي هم؟”
وهو استفهام إنكاري على وجه التفجع والتألم، كأنه استبعد صلى الله عليه وسلم أن يخرجوه من حرم الله وجوار بيته، وبلدة أبيه إسماعيل من غير سبب، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن منه فيما مضى ولا فيما سيأتي سبب يقتضي إخراجا بل كانت منه المحاسن الظاهرات والكرامات المقتضية لإكرامه وإنزاله بأعلى الدرجات ” وفي ليلة هجرته صلوات الله وسلامه عليه إلى المدينة، وعلى مشارف مكة وقف يودع أرضها وبيوتها، يستعيد المواقف والذكريات ولو خالط هذه الذكريات الألم مخاطبا لها بكلمات تكشف عن حب عميق، وتعلق كبير بديار الأهل والأصحاب، وموطن الصبا وبلوغ الشباب، وعلى أرضها بيت الله الحرام، قائلا “والله إني أعلم أنك خير أرض الله وأحبها إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت”.
وفي رواية أخرى “ما أطيبك من بلد وما أحبك إليّ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك” رواه الترمذي، وفي ذلك دلالة واضحة على حب النبي صلى الله عليه وسلم الشديد لبلده ووطنه مكة، كما تدل على شدة حزنه لمفارقته له، إلا أنه اضطر لذلك، وقال الذهبي معددا طائفة من محبوبات النبي صلى الله عليه وسلم “وكان يحب عائشة، ويحب أباها، ويحب أسامة، ويحب سبطيه، ويحب الحلواء والعسل، ويحب جبل أحُد، ويحب وطنه ” فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب وطنه، ويكره الخروج منه، وما خرج منه إلا بعد أن لاقى من أهله المشركين أصناف العذاب والأذى، فصبر لعله يجد من قومه استجابة لدينه ودعوته، لكنهم أبوا وظلوا على عنادهم وإيذائهم له ولأصحابه، فما كان منه إلا أن خرج حماية لدينه ودعوته وأصحابه، فدين الله أغلى وأعلى من الوطن والأهل والأولاد.