كتب دكتور عصام كمال المصري
الضمير هو ذاك الصوت الخافت الضعيف الذي يدوي أحيانا بقوة فيؤرق مضاجعنا بلا رحمة . هو جبل شاهق وسط جزيرة معزولة في أعماق النفس الإنسانية المعذبة ، راسخٌ في تربتها المليئة بالمعاني والمتناقضات ، تحيطه من جميع الجهات أفكار ورؤى وتصورات متناقضة تشتته وتؤرقه وتحاول بلا رحمة تغيير مساره , فيعلن عن وجوده الفعلي في وعينا بصيغة أحكام وقواعد ومبادئ تستلهم مضمونها , يرانا ولا نراه ، يدركنا ولا ندركه . يعلو صوته حينًا ويخفت حينًا آخر ، فنخافه حين يخفت , ونهابه حين يعلو بقوة وكأنه مارد عاد لينتقم بلا رحمة , حين تصل إلى قمته تكتشف أنها لا تتسع إلا لساق واحدة .. قمة لا تحوي الحق والباطل , الصواب والخطأ , وإنما فرصة وحيدة فإما الحق وإما الباطل , إما الصواب وإما الخطأ , لكن ما يميزه أنه يعرف جيدًا كيف يستجيب لنداء رغباتنا وكثيرًا ما يتجاهلها حتى يتسنى له فرض أحكامه ورؤاه على إرادتنا قد لا يمنعك من فعل الخطيئة لكنه قد يؤرق مضجعك فيمنعك من الاستمتاع بها . يناظر وقفة الإنسان الأولى على هذه الأرض وإدراكه لأول مرة امتداد بصيرته إلى ما وراء الأفق إلى نقطة تحرره من عبثية الفكرة والموقف .. شيء يجعلنا وكأننا نخاطب كائن حي يعقل ، ويعي ، ويشعر . ويدفعنا إلى تلك النبضات الواعية النابعة من أعماقنا ، إلى الاستماع لها ، والاحتكام إليها ، وما بين نداء ضمير الوحي الإلهي والتنظير الفلسفي فجوة شاسعة وهوة سحيقة لا ندري ما معناها أو حتى عواقبها .
عزيزي القارئ لقد شغلت فكرة الضمير العديد من الباحثين من رجال الدين والفلسفة وعبر عصور مختلفة . وعلي الرغم من الغموض الذي أحاط بفكرة الضمير فقد حاول بعض الباحثين في الأخلاق تحديده كأساس لا غني عنه ، إما تصريحًا أو تلميحًا ، خالصًا أو مختلطًا بغيره من المفاهيم . حتى يمكن القول : إنه لا أخلاق بلا ضمير ، كما حاولوا العودة بالضمير إلي نشأة علم الأخلاق ، فصوروه لدي سقراط مختلطًا بصوت الإله تارة ومختلطًا بصوت العقل تارة أخري . ومع أن سقراط لم يذكر الضمير صراحة ، إلا أنهم يدَّعون عليه هذا القول , فيقولون : ماذا يعني سقراط بصوت الإله ، إلا ما نسميه اليوم بالضمير ؟ وذلك من خلال تأملهم لاعترافه ، بأنه لم يكن يتخذ في أمور حياته رأيًا حاسمًا قاطعًا ، إلا بعد الرجوع إلي نفسه ، والإصغاء إلي هذا الصوت الداخلي صوت الإله في نفسه .
وفي الفكر الإسلامي يعد الضمير من أهم العوامل المؤثرة في تنفيذ الإلزام الخلقي لأن بعض الناس لا يكفيهم وازع العقل ، ولكنهم يحتاجون إلي وازع الضمير ، كزاجر يبعدهم عن الذنوب . مع تحفظ واحد , هو ألا يزيغ هذا الضمير عن الهدى الذي يقدم إليه , بل يحاول أن يبحث عنه عند الحاجة . وتبدو أهمية الضمير كعامل لتنفيذ الإلزام الخلقي , في أنه ينبع أساسًا من وجدان الإنسان وفطرته ، وبالتالي فإن ذلك يكون دافعًا قويًا إلي الالتزام بالسلوك الأخلاقي ، والابتعاد عن السلوك غير الأخلاقي . فهو ركيزة حية , يعطي صاحبه إشارة التوجيه للإقدام علي الفعل , أو الإحجام عنه , وهذا لا يكون إلا في ذوي النفوس السليمة ، والفطرة النقية أولئك فئة من البشر طُبِعوا علي معرفة الحق , وحب الأعمال الخيِّرة ، وصارت تلك عادة لهم ؛ لأن هذه المعاني قد نُقِشت في نفوسهم .
إن الإسلام لا يعتد بضمير من دون دين فالتدين وما ينشأ عنه من مراقبة دائمة وخشيه لله هو الدعامة الأساسية التي يقوم عليها الضمير الأخلاقي في الإسلام فالإنسان لابد له من رقيب أقوى من الضمير وسلطانًا أقوى من العقل . فالضمير ليس له قوة فطرية معصومة بطبيعتها بل الضمير متأرجح متقلب لا يستقر له قرار كما أنه يتكون ويتشكل بحسب ما يتغذى عليه من ثقافة وبيئة وتربية تختلف لدى الفرد الواحد حسب اختلاف الروافد التي تمده بالثقافة العقلية والتهذيب الروحي .. وبحسب أخلاق وقيم من يخاطبهم ولن يكون الضمير حيًا إلا إذا كان موصولًا بأمر الله وكانت رقابته هي رقابه الله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية والتي يستحيل خداعها أو الاستخفاء عنها . وهكذا كانت مرتكزات التأصيل الإسلامي للنظرية الأخلاقية بين الوحي الإلهي الصافي والتنظير الفلسفي الراقي , قائمة علي قيم الإسلام بمنهجه الصحيح الوسطي المتسامح نظرياً وعملياً فرسالة الإسلام حين بسطت جناحيها في أقل من قرن علي نصف المعمورة ، كانت كأنما أنشأته خلقا آخر .. لقد بدلته من أوطانه المتفرقة وطنًا واحداً ، ومن قوانينه المختلفة قانونًا واحدًا ، ومن آلهته المتعددة إلها واحدًا.. لقد نفذت إلي جوهر نفسه فحولته تحويلا وبدلت أسلوب تفكيره تبديلًا ، بل عمدت إلي لغته فأضافت لغة القرآن الكريم لسانًا إلي جانب لسانه ، وكثيرًا ما أنسته لسانه الأصيل , وجعلت لسان الإسلام هو لسانه الوحيد ، ثم هي لا تزال في كل عصر ، تتلقي معاول الهدم من أعدائها فتكسر هذه الصدمات على صخرتها ، وهي قائمة تتحدي الدهر ، وتنتقل من نصر إلى نصر .. فليحاول الباحثون ما شاءوا أن يعرفوا مصدر هذه القوة المستمرة ، وهذا الانتصار الباهر . إن هذا النجاح ، ليس مرده في نظرنا إلي سبب واحد من الأسباب ، ولا إلي فضيلة واحدة من الفضائل .. لقد تضافرت عليه شخصية الداعي ، ومنهاج دعوته ، وشخصية الأمة التي تلقت تلك الدعوة ، وطبيعة الدعوة نفسها ، ومن وراء ذلك كله معية الله ورعايته لهذه الرسالة حتى بلغت كمالها .. أما صاحب الرسالة وما أدراك ما صاحب الرسالة ، فحسبك أنه عليه الصلاة والسلام ، جمع خلالًا كثيرة كل واحدة منها كانت عنصرًا فاعلًا في هذا النجاح ، خلالًا نعد منها ولا نعدها ، ونرسم شيئًا من جوانبها ولا نحدها .
فما أحوجنا لضمائر حية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالواجب والأمانة ، تنشر النور والخير والسعادة بدافع الإنسانية تُشعر صاحبها بوخزات التأنيب في حالة اختلال ميزانه ، نعم تختلف الأزمات وتتباين المسكنات ، وتتبادل الأسماء والمسميات لكن السبب الرئيسى هو موت الضمير … ما أحوجنا لقوة دافعة قوية للتهذيب الوجداني والسلوك الإنساني السوي . ما أحوجنا لصوت الصواب ينبعث من أعماق ذات ترفض الشر وتأمر بالخير ، صوت خفي يتمْتم من الداخل ، يحمّل معه ترددات قلبية دافئة ، تمتص زفرات الروح الباردة . وما تحمله من سموم من أجل تشخيص علاج لها . فهناك صوت آخر يكون على أفق أبعد من الصواب ، وأقرب إلى الخطأ ، وهو نابع من سيئة كان قد زلفها ، أو سطوة شيطانية كان قد قذفها في قلوب ضعيفة . ما أحوجنا للمنحة التي منحنا الخالق إياها وتستحق الشكر الدائم ، إنه الضمير الحي الذي يكون حاكمًا مرشدًا ، وميزانًا أمينًا متصلًا دائما بربه سبحانه في كل وقت وحين . متصلًا بالحق سبحانه وتعالى الذي يراقب ، ويحذر ليظل هذا الضمير حيًا متصلًا بالإيمان ، قويًا باليقين ، يحاسب نفسه ويمنعها من الخطأ والتعدي على الحقوق وفعل كل ما هو مخالف للدين والمبادئ والقيم والأعراف . فلا شك أن بموت الضمير تصبح الإنسانية ككلمة لا معنى لها ولا قيمة .. إن ازدهار الإنسانية وتقدمها يتجلى في كيفية الحفاظ على أرواح البشرية من الموت والدمار ، يكمن في صون كرامتها وضمان حريتها ، والحرص على ضمان العيش لجميع أفرادها بسلام وتسامح وأمان .. فموت الضمائر كارثة بشرية مبنية على العواطف والأهواء والمصالح الشخصية ، ضمائر اعتنقت مبدأ الغاية تبرر الوسيلة المخالف لكل الأديان والشرائع السماوية . هدفها فقط الوصول إلي ما تتمنى ، بغض النظر عن الموضع الذي تطؤه أقدامها أكانت أرضًا ، أم أجسادًا بشرية . أصحاب الضمائر الميتة منتشرون في كل المجتمعات ، فما أحوجنا لصحوة الضمائر وصرخة الغضب علي كل ما يخالف شرع الله ومنهجه .. ففي داخل كل منا محكمة قائمة ومستمرة . أحكامها عادلة ونهائية لا استئناف فيها , فلنجتهد جميعًا قدر المستطاع في أن نحافظ علي تلك الومضة الإلهية التي تضيء قلوبًا غلفها الصدأ حتى بات إصلاحها أمرًا عسيرًا إلا بمنحة الله وأمره .
نداء الضمير بين الوحي الإلهي والتنظير الفلسفي