هنا نابل
بقلم المعز غني
البرازيل أكثر دولة تصنع القهوة … إيطاليا أكثر شعب يستهلك
القهوة … وتونس أكثر الناس يجلس بالمقاهي…!؟
القهوة ليست مجرّد مشروب أسود يُسكب في الفناجين ، بل هي فلسفة حياة ، ومقام للروح ، وطقس يومي يربط بين الناس برباط خفيّ من الونس والبوح .
منذ لحظة تحضيرها إلى إرتشافها على مهل ، تختزل القهوة في ذراتها قصة الشعوب وحكايات العادات .
البرازيل ، أرض الشمس والخصوبة ، تتربع على عرش الإنتاج العالمي.
هناك حيث تتمايل حقول البنّ كالبحر الأخضر الممتد بلا نهاية ، يكدّ الفلاحون منذ فجر التاريخ ليمنحوا العالم حبوباً سحرية تحوّلت إلى لغة مشتركة بين الثقافات.
البرازيل لا تبيع القهوة فحسب ، بل تصدّر معها دفء أراضيها ورائحة المطر الأولى على ترابها .
وفي إيطاليا ، القهوة ليست مجرّد فنجان صباحي ، بل هي فنّ قائم بذاته ، يُصنع بدقّة تشبه دقّة الحرفيين في صياغة الذهب. هناك الـ “إسبريسو” يختصر الزمن في رشفة ، والـ “كابوتشينو” يترجم فلسفة التوازن بين الحليب والقهوة ، وكأن الإيطاليين يصرّون على أن يكونوا أوفياء لشغفهم الجمالي حتى في فنجان قهوة.
إنهم لا يستهلكون القهوة فقط ، بل يذوبون فيها عشقاً ، ويمارسونها كطقس يومي مقدّس لا يقبل التنازل .
أما في تونس ، فالقهوة تأخذ بعداً آخر … ليست مجرّد مشروب ، بل هي مقهى … والمقهى عالم بحد ذاته . من “الكرسي الخشبي
إلى “الطاولة المربّعة”، من أصوات النرد على الطاولة إلى رائحة “الشيشة” ووشوشات السياسيين والشعراء والعاطلين عن العمل… المقهى فضاء مفتوح للتفكير والتسلية والجدل الذي لا ينتهي.
هنا تتحول القهوة إلى ذريعة ، والمقهى إلى ملاذ: ملاذ للعابرين ، للمثقفين ، للعشاق ، ولمن يبحث عن لحظة راحة من زحمة الحياة. تونس بلد المقاهي أكثر منه بلد القهوة، إذ تغدو الجلسة فيها أحياناً أهم من الفنجان ذاته وبين المقهى والمقهى …مقهى
القهوة في البرازيل رزق ، وفي إيطاليا فن ، وفي تونس مجتمع كامل يتنفس على أنغام فنجان يتوسط الطاولة.
إنها ليست مجرّد مادة سوداء مركّزة بالكافيين ، بل سرّ صغير يربط الإنسان بنفسه وبالآخرين .
ولعل أجمل ما في القهوة أنها تعكس هوية الشعوب : تصنعنا كما نصنعها ، وتكشف عن أسرارنا أكثر مما نظن.
فأيتها القهوة … كم من أسرار مرّت عبرك ولم تُفضَ؟ وكم من أحلام بدأت من فنجان صغير على طاولة في مقهى عتيق بنابل أو تونس العاصمة أو أي ركن من هذا الوطن الجميل؟
لتبقى القهوة سرّ الحياة ورفيقة الأرواح ، ولتبقى المقاهي التونسية شاهدة على وجوه الناس مثل القهوة العالية بسيدي بوسعيد وقهوة سيدي بوحديد بمدينة الحمامات ، ضحكاتهم ، أحزانهم ، ونقاشاتهم التي لا تنتهي.
فنجان اليوم ليس مجرد رشفة … إنه حكاية شعب بأسره.
هنا نابل
✦ وأخيرا وليس آخرا ✦
فلنرفع فنجان القهوة تحيةً للبرازيل أرض الإنتاج ، ولإيطاليا أرض العشق ، ولتونس أرض الجلسات التي لا تشيخ … هنا حيث تتحول الرشفة إلى قصيدة ، واللقاء إلى حياة .
فلتظل مقاهينا عامرة بالونس ، نابضة بالحكايات ، شاهدة على زمن يمضي وآخر يولد من جديد …
ومن أراد أن يكتب سطره الخاص ، فليجلس على كرسي بمقهى تونسي ، وليترك للقهوة أن تهمس له بما عجزت الحروف عن قوله .