هند ‘ ارتقاء النار الهادئ ‘

خشبة مظلمة تماماً ، لا ضوء سوى خيط أبيض
ينحدر من أعلى المسرح نحو منتصف الخشبة
كأنه جسر بين هند وبين ذاتها الأعلى
لا حضور لأي شخصية أخرى
لكن ظل العالم يمّر في كلماتها
صمت طويل
خيط الضوء يزداد نقاء ، ثم تتقدم هند من العتمة
هند (بصوت منخفض ، وكأنها تتكلم مع طبقة داخلية لا تُرى ) :
كنت أظن أنني حين أقف هنا ، سأحتاج جمهوراً
لكنني اكتشفت أنني لا أحتاج ، إلا أنا
(تلمس الهواء بإصبع واحد)
هذا الهواء
كان يؤلمني يوماً ، كنت أخاف أن يفضحني
أن يرى ما لا أريد رؤيته
لكن هل الهواء يرى ؟
أم أنني كنتُ أفتح نوافذي
لأرواح لا تعرف معنى اللمس ؟
تتقدم خطوة نحو الضوء ، خطوة واحدة فقط
لكنها تخرج من امرأة إلى امرأة أخرى
هند : هناك مسافةٌ بيني وبيني
أظنّ أنني قضيت سنوات
أختبئ في تلك المسافة.
أترك للآخرين أن يحتلوها ، أن يرسموا حدودي
أن يحركوا ثقل الهواء حولي
تبتسم فجأة : يا لسذاجتي
كيف سمحت لعالم لا يعرف لغتي
أن يكتب نسخةً مني؟
تتنفس بعمق :؛هذه الليلة
لن يبقى بيني وبيني شيء
تقترب من الضوء حتى يضيء كتفها فقط
الإضاءة لا تكشف ، بل تلمح
هند : جسدي
كان حقلاً يحتله الخوف قبل اللذة
كان مساحة تُرهبني ، لا لأنني ضعيفة
بل لأن العالم أقنعني ، أنه الأعلم بي من نفسي
تهز رأسها : لكن الجسد لا يخاف
الوعي هو الذي يخاف
وحين يشعل الوعي فتيله
يصير الجسد ناراً تفكر
ترفع يدها ببطء شديد : هذه اليد
ليست يداً ، إنها وثيقة سيادة
كلما ارتفعت ، ارتفع معنى أن أكون
إضاءة أعمق ، الضوء يتحول إلى دائرة صغيرة حولها
هند : الرغبة
يا لها من كلمة سيئة السمعة
عندما أرادوا أن يسجنوا وعينا
أعطوها اسماً ناقصاً
وربطوها بالجسد وحده
حتى تبدو المرأة تابعة لها
لا سيدة عليها
لكن الرغبة في حقيقتها ليست جريان دم
بل جريان فهم ، نعم ، فهم
تقترب من الخط الأبيض على الأرض :
كل خطوة نحو الرغبة
هي خطوة نحو طبقة أعلى في داخلي
أنا لا أشتعل ، بل أرتقي
صوت خافت لاهتزاز زجاجي ، كأنه مرآة تتنفس
هند تضحك بمرارة دافئة :
كانت لدي مرآة ، مرآة لا تعكسني
بل تعكس خوف الآخرين مني
كلما اقتربت منها صرت أصغر
وكلما ابتعدت صرت أعمق
(تمسح الهواء أمام وجهها كأنها تكسر شيئاً غير مرئي)
الليلة كسرتُ الزجاج ، لا مرآة بعد الآن
سأكون صورتي الوحيدة ، وسأمنح الضوء شكلاً
لم يعرفه قبلي أحد
هند تجلس على الأرض داخل دائرة الضوء
لكن الجلوس هنا ليس انكساراً ، بل لحظة سيادة
هند بهمس عميق :
أنا النار الهادئة ، النار التي لا يفهمها
إلا من يقترب بالعقل ، لا بالغريزة
نار لا تحرق ، بل تكشف
لا تُغري ، بل تهذب
لا تتوسل القُرب ، ولا تهرب من اللمس
هي نار تحكم نفسها بنفسها
هند تضع يدها على صدرها :
هنا ، ليست فتنة الجسد. هنا فتنة الإدراك.
هند تنهض :
تقف في منتصف الضوء تماماً
الإضاءة تصعد من أسفل إلى أعلى تدريجياً
هند : أبحث منذ سنوات
عن تلك النسخة الكاملة مني
نسخة لا تُجامل العالم ، ولا تُخفي اشتعالها
ولا تسمح لظل أن يكتب حدودها
واليوم ، أدركت شيئًا بسيطاً وعظيماً ومخيفاً وبرّاقاً
هند تتقدم خطوة صغيرة ، نهائية ، حاسمة :
لقد بلغت نفسي ، بلغت طبقة الضوء الأخيرة
بلغت حافتي العليا ، التي لا يمكن أن تطالها
يد لا تعرف معنى الوعي
هند تتنفس مرة واحدة ، طويلة ، هادئة :
والآن ، لم يبق أحد ، ليبلغني
تنطفئ كل الإضاءة ، يظل خيط واحد من الضوء معلقاً
ثم ينطفئ تدريجياً
ثم صمت.
طارق غريب
هند ‘ ارتقاء النار الهادئ

