الرئيسيةمقالاتيميل بعض الأفراد إلى التقدير القطعي لما حولهم
مقالات

يميل بعض الأفراد إلى التقدير القطعي لما حولهم

يميل بعض الأفراد إلى التقدير القطعي لما حولهم

يميل بعض الأفراد إلى التقدير القطعي لما حولهم: 

 

بقلم / د. حنان حسن مصطفي 

 

فلا يرون الآخر إلا بوصفه خيرًا محضًا أو شرًا مطلقًا، دون أن يسمحوا لأنفسهم بتجريب الإدراك الرمادي، أو استيعاب التدرج البنيوي في الواقع أو الأشخاص، هذا الميل إلى الإدراك الثنائي يُشكّل ارتكاسة نفسية دفاعية أو ما وصفته ميلاني كلاين بـ “الوضع الإسكيزو-بارانويدي”، في هذا الوضع، يتعامل الفرد مع موضوعاته الخارجية من خلال آليات انقسام حادّة، فيفصل بين الموضوع الجيد والموضوع السيء، ويرفض دمجهما في صورة واحدة، لعدم قدرته على تحمل التناقض الداخلي الذي قد ينجم عن مثل هذا الاندماج.

لذا، فإن موضوعًا معقدًا أو كائنًا متحوّلًا، مثل صورة الكلب التي تتدرج تدريجيًا لتتخذ ملامح قطة، لا يُقرأ من قِبَل هؤلاء إلا من خلال مرآة الإنقسام؛ إما كلب أو قطة، دون تمكّن من ملاحظة حلقات التغير ولا القدرة على استيعاب التداخل؛ يُسقطون على المشهد حاجتهم إلى الثبات، وينكرون ما فيه من تحوّل، وكأن الإدراك عندهم لا يتسع سوى لتمثيلٍ جامد يحفظ الإتساق الداخلي و يقي الذات من إلتباس المعنى.

هذه البنية الإسقاطية الإنفعالية لهؤلاء الأفراد، تجعلهم في حالة صراع داخلي غير معالَج بين حب مفرط وكراهية شديدة، دون قدرة على ترميم التناقض أو التوفيق بين المشاعر المتضادة تجاه نفس الموضوع، و هو ما يجعلهم يتشبّثون بالصورة الأولى التي كوّنوها عن الآخر، ويرفضون أي تغيير لاحق، خشية انكشاف التناقض الداخلي أو اهتزاز البناء الدفاعي القائم على الإسقاط والانقسام.

إن غياب القدرة على إدراك التناقض أو تحمل المشاعر المزدوجة هو ما يمنع هؤلاء الأشخاص من الانتقال إلى الوضع الاكتئابي العصابي، حيث تبدأ الذات، بحسب كلاين، في الاعتراف بأن الموضوع المحبوب يمكن أن يكون مؤلمًا، وأن الشخص الذي يؤذي قد يحمل في داخله عناصر حب أو جمال، حيث في الإكتئاب هنا، تنشأ القدرة على الحزن، وعلى الترميم الرمزي لما تهدّم داخليًا، أي على الاعتراف بأننا أسأنا إلى موضوع نحبه، و أن هذا الموضوع لا يُختزل في أحد قطبي المشاعر، بل يحتويهما معًا.

 أما البقاء في الوضع الإسكيزو-بارانويدي فيحرم الذات من هذا التعقيد البنّاء الذي يحدث في الإكتئاب العصابي، و يجعلها حبيسة المواقف المطلقة؛ فإما حب دون شروط أو كراهية دون مخرج.

لا عجب، إذًا، أن يؤدي هذا التموقع النفسي إلى اضطراب في المعرفة، فالعقل الذي لا يحتمل تدرج المعاني ولا يرى الواقع إلا من خلال تصنيفات صارمة، سيتحوّل إلى منتِج دائم للّبس، لا في تمثيل الآخر فحسب، بل في تمثيل الذات كذلك؛ مما يُقصي كل ما هو متحوّل أو متعدد أو مركّب، و لا يعود هذا فقط إلى نقص في المعرفة، بل إلى جرح انفعالي في القدرة على تحمل الإلتباس، و هو ما يجعلنا لا نرى الكلب وقد صار قطة، ولا الآخر وقد تغيّر، ولا الذات وقد انقسمت ثم التأمت؛ بل نظل نبحث عن يقين مفقود، وعن موضوع خالص لا شائبة فيه، لأننا لم نحتمل يومًا أن تكون الأم التي نحبها، هي نفسها التي خذلتنا.

يميل بعض الأفراد إلى التقدير القطعي لما حولهم

يميل بعض الأفراد إلى التقدير القطعي لما حولهم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *