التدليس بالأرقام كيف يقنعونك أنك سبب الأزمة
✍️ بقلم حازم علي أدهم
في زمن امتلأ بالضجيج وتحوّل فيه الإعلام من وسيلة توعية إلى وسيلة توجيه صار اللعب بالأرقام أحد أخطر أسلحة تضليل الشعوب لم يعد الكذب يقال بالكلمات فقط بل صار يقدم في صورة بيانات وإحصاءات تخدع العقل قبل العين وتستغل جهل المواطن بالتحليل الرقمي لتزرع في نفسه إحساسا بالذنب وكأنه المسؤول الأول عن سوء حال الاقتصاد
وفي الأيام الأخيرة انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي صورة إحصائية تقول إن المصريين ينفقون نحو ستة عشر مليون دولار على الشاي رقم صادم بلا شك يجعل القارئ العادي يظن أنه يعيش في بلد مفرط في الترف والإنفاق على الكماليات لكن المأساة الحقيقية ليست في الرقم نفسه بل في النية التي تقف وراء نشره فحين يتم عرض رقم مجرد دون تفسير أو تحليل يصبح أداة خبيثة لإقناع الناس بأنهم السبب في تدهور الاقتصاد وبأن الشعب مسرف بطبعه يعيش في رفاهية مصطنعة بينما الدولة تتحمل أعباءه
الطبيعي أن المواطن حين يرى الرقم ستة عشر مليون دولار يشعر بالذهول ويتساءل هل نحن فعلا ننفق كل هذا على الشاي لكن بمجرد أن يمسك هاتفه ويفتح الآلة الحاسبة يكتشف الحقيقة الصادمة المعاكسة تماما فلو قمنا بتحويل هذا المبلغ إلى الجنيه المصري بسعر صرف خمسين جنيها للدولار سنجد أن الإجمالي هو ثمانمائة مليون جنيه ثم نقسم المبلغ على عدد سكان مصر البالغ حوالي مائة وعشرة ملايين نسمة فيكون نصيب الفرد من هذا الإنفاق الرهيب هو سبعة جنيهات وربع فقط في الشهر أي بمعدل ربع جنيه في اليوم أي أن كل مصري تقريبا لا يشرب سوى كوباية شاي واحدة في الشهر
تخيل بعد كل هذا الضجيج وبعد كل هذه الصورة التي أريد لها أن ترسخ في ذهن الناس أنهم شعب مسرف تأتي النتيجة لتؤكد أن المواطن في الحقيقة مش لاقي حتى يشرب شاي
هذه الصورة ليست مجرد سهو أو خطأ في التقدير بل جزء من أسلوب ممنهج يعرف في الإعلام السياسي باسم التضليل بالأرقام يقوم هذا الأسلوب على استخدام بيانات صحيحة جزئيا لكن يتم تقديمها بطريقة تخدم رواية معينة فبدل أن تقال الحقيقة كما هي يتم تجريدها من سياقها ثم تضخيمها أو تجزئتها بحيث تصل للناس بمعنى مختلف تماما عن الواقع
وفي الحالة دي الهدف واضح إقناعك أنك السبب أنك أنت المواطن البسيط من يستهلك ويهدر ويفرّط وأن الدولة مظلومة تحاول الإصلاح لكنك لا تساعدها وبهذه الطريقة يتحول المواطن من ضحية سياسات اقتصادية فاشلة إلى المتهم الأول في قضية الغلاء والتضخم وسوء المعيشة
اللافت أن هذه ليست المرة الأولى التي يستخدم فيها هذا الأسلوب قبل سنوات انتشرت عناوين مشابهة المصريون يستهلكون تسعين مليار رغيف خبز سنويا المصريون يهدرون الكهرباء أكثر من أوروبا المصريون يشربون مياه أكثر من اللازم
وكلها عناوين صيغت بذكاء لتثير الدهشة ثم الغضب من النفس دون أن تقول الحقيقة كاملة فلم يقل أحد أن مصر دولة ذات عدد سكان ضخم وأن الرقم الكبير طبيعي جدا في مجتمع تعداده أكثر من مائة مليون إنسان ولم يقل أحد إن معدل استهلاك الفرد في مصر أقل من نصف المعدل العالمي في كثير من السلع الغذائية والطاقة والمياه لكن من يهتم بالحقيقة المهم هو التأثير النفسي وهو أن تخرج من قراءة الخبر وأنت تشعر أنك السبب في الأزمة
حين ننظر بعمق إلى الواقع الاقتصادي سنجد أن المواطن المصري يعيش منذ سنوات في دائرة متزايدة من الضغوط المعيشية الأسعار ترتفع بلا توقف والرواتب لا تكفي والضرائب تفرض بلا هوادة والدعم يتراجع عاما بعد عام ثم بعد كل هذا يقال له في الإعلام أنتم تنفقون كثيرا أنتم السبب
أي منطق هذا كيف يكون المواطن الذي يقف في طوابير العيش ويحسب الجنيه قبل صرفه هو السبب في عجز الموازنة أو في أزمة الدولار من الذي يستورد بمليارات الدولارات سلع غير ضرورية من الذي يسمح بفتح الاعتمادات لاستيراد الكماليات بينما المصانع المحلية تغلق هل هو المواطن أم المنظومة الاقتصادية التي تدار دون رؤية شاملة أو أولويات وطنية
الاقتصاد الحقيقي لا يقاس بعدد أكواب الشاي التي يشربها الناس بل بقدرة الدولة على إدارة مواردها واستثمارها في الاتجاه الصحيح حين تنفق المليارات في مشاريع بلا دراسات جدوى أو تهدر الأموال في البيروقراطية أو يتم الاعتماد على القروض بدل الإنتاج فمن الطبيعي أن تتدهور العملة وترتفع الأسعار لكن بدل أن يحاسب المسؤول يتم تحويل الأنظار إلى المواطن المسكين الذي يشرب كوباية شاي في اليوم وكأنه هو من أضاع المليارات
هذا هو جوهر الخداع استبدال المجرم بالضحية فبدل أن يسأل المسؤول عن الخطط الاقتصادية الفاشلة يتم توبيخ المواطن على شايه وساندوتشه ورغيفه لتتحول الكارثة من أزمة إدارة إلى أزمة سلوك شعبي
المفترض أن يكون الإعلام مرآة للواقع ينقل الحقائق ويكشف التناقضات لكن في أوقات كثيرة يتحول الإعلام إلى أداة تبرير وتخدير يستخدم لتجميل الأخطاء أو توجيه الرأي العام نحو أهداف محددة فيقال للمواطن تحمل اصبر شارك في الإصلاح بينما تدار خلف الكواليس صفقات وقرارات تلتهم ما تبقى من قوته الشرائية
المفارقة أن نفس الإعلام الذي يدين المواطن على شايه هو نفسه الذي يحتفي بإنفاق الملايين على المهرجانات والحفلات والفعاليات العالمية بدعوى أنها تحسن صورة مصر فهل تحسين الصورة أهم من تحسين المعيشة وهل وعي المواطن يبنى بتأنيبه أم بمصارحته
الحقيقة التي يحاولون إخفاءها أن المواطن المصري هو الركيزة الوحيدة التي ما زالت تحافظ على تماسك هذا البلد هو الذي يتحمل الغلاء ويستمر في العمل رغم الإحباط ويبتكر حلولا للبقاء في ظروف لو عاشتها شعوب أخرى لانهارت تماما ولذلك فإن محاولات تشويه صورته لن تنجح لأن الوعي الجمعي بدأ يتشكل والناس بدأت تسأل وتفكر وتبحث قبل أن تصدق
الآلة الحاسبة التي في يد كل شاب اليوم أخطر على التضليل من ألف حملة إعلامية بضغطة زر واحدة يمكن لأي شخص أن يكتشف كذب الأرقام المضللة ويفضح المنشورات الموجهة التي تزرع في وعي الناس الإحباط والشعور بالذنب
في النهاية المعركة الحقيقية ليست على كوب الشاي بل على عقلك من يملك وعيك يملكك ومن يقنعك أنك السبب سيجعل منك وقودا لأخطائه لكن حين تفكر حين تحسب حين تراجع وتتحقق سيسقط سحر التضليل مهما كان متقنا
ولذلك لا تصدق أي رقم يلقى أمامك دون مصدر واضح ولا تسمح لأحد أن يجعلك تشعر بالذنب لأنك تشرب شايا أو تستهلك كهرباء أو تأكل خبزا هذه حقوقك كمواطن لا امتيازات تمن بها عليك الدولة وإذا كان هناك من يسرف فهو من أهدر الموارد لا من يحاول النجاة بها
قبل أن تصدق أي رقم أو إنفوغراف على السوشيال ميديا خذ دقيقة واحدة فقط للحساب افتح الآلة الحاسبة واضرب واقسم وستكتشف بنفسك كم يحاولون خداعك لأن الكذبة عندما تقال بالأرقام تصبح أخطر من ألف إشاعة ولأن الحقيقة مهما حاولوا دفنها ستظل تخرج من فنجان شاي بسيط يثبت أن الشعب لم يكن يوما سبب الأزمة بل هو الذي يدفع ثمنها.
التدليس بالأرقام كيف يقنعونك أنك سبب الأزمة


