هوية النفس بين الإيمان والانتماء… طريق السعادة وبناء الإنسان والوطن
✍️ بقلم: د. مدحت يوسف
📅 التاريخ: ٢ نوفمبر ٢٠٢٥م
كل ما في هذا الكون له هوية تميّزه وتمنحه خصوصيته؛ فالشمس بهويتها نور ودفء، والبحر بعمقه وسره، والإنسان بروحه وعقله وإيمانه. غير أن أعظم ما يملكه الإنسان ليست ملامحه ولا نسبه ولا اسمه، بل هي هوية نفسه التي تربطه بخالقه، وتمنحه الوجود الحقيقي والمعنى الأسمى للحياة.
قال الله تعالى: “وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي”، فكانت تلك النفخة الإلهية سرّ الوعي والكرامة والاختيار، وبها ارتقى الإنسان من مجرد مخلوقٍ من طين إلى كائنٍ مكرمٍ بالروح والعقل والضمير. ومنذ تلك اللحظة صارت النفس مرآة للهوية، تتشكل بالإيمان، وتعلو بالمعرفة، وتسمو بالقرب من الله سبحانه وتعالى.
هوية النفس لا تُقاس بالمظهر ولا بالجاه ولا بالانتماء الأرضي وحده، بل تُقاس بمدى عمقها في الإيمان ونقائها في الطاعة. من فقد هذه الهوية عاش تائهًا بين رغبات الدنيا، يبحث عن ذاته فلا يجدها. قال الله تعالى: “نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ”، فمن نسي خالقه فقد ضاع منه طريق السعادة، وتلاشت ملامح ذاته.
تحيا النفس حين تتصل بالله، وتُزكّى من الأهواء، وتسمو عن الغرور والحسد والطمع. قال الله تعالى: “قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا”، فالتزكية هي سر الحياة الطيبة، وهي التي تصنع من الإنسان قلبًا رقيقًا، وفكرًا مستقيمًا، وسلوكًا راقيًا. النفس الطاهرة تعرف أن السعادة الحقيقية ليست في المال ولا في الشهرة، بل في الرضا عن الله وحسن الصلة به.
قال النبي ﷺ: “ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب.” فصلاح النفس يبدأ من صفاء القلب، ومن امتلائه بالحب والخير والرحمة. النفس التي تحيا بالإيمان ترى في كل يومٍ نعمة، وفي كل محنةٍ حكمة، وفي كل أمرٍ قدرًا من الله يفيض رحمة وسلامًا.
وحين تستقيم هوية النفس على الإيمان واليقين، تُبنى شخصية الإنسان المتكاملة التي تجمع بين الروح والعقل، بين العبادة والعمل، بين الطموح والتواضع. فالنفس المؤمنة هي التي تربي صاحبها على الصدق، وتدفعه إلى الإبداع، وتزرع فيه حب الخير والوطن والإنسانية. إن بناء الإنسان لا يتحقق إلا ببناء النفس، وإذا صلحت النفوس صلح الوطن، وارتفعت الأمم.
حب الوطن جزء من هوية النفس، لأنه الميدان الذي تُترجم فيه القيم إلى عمل، والإيمان إلى عطاء. الوطن ليس ترابًا فحسب، بل هو تاريخٌ وهويةٌ وانتماءٌ ومسؤولية. قال النبي ﷺ وهو يودّع مكة: “والله إنكِ لأحب بلاد الله إليّ، ولولا أن قومكِ أخرجوني منكِ ما خرجت.” ومن تمام الإيمان أن يحب الإنسان وطنه، فيحافظ على أمنه، ويسعى لرقيّه، ويغرس في أبنائه الوفاء والانتماء.
وحين تمتزج هوية النفس الإيمانية بالهوية الوطنية، يولد الإنسان القوي المتوازن، الذي يحمل في قلبه نور الإيمان، وفي عقله وعي الانتماء، وفي سلوكه إخلاص العمل. إنه الإنسان الذي يبني وطنه بالعلم، ويحميه بالخلق، ويعمّره بالخير، مؤمنًا بأن العبادة ليست صلاةً وصومًا فحسب، بل عملٌ وإعمارٌ وإخلاصٌ في خدمة الأرض والإنسان.
هوية النفس إذًا هي الجسر الذي يصل بين السماء والأرض، بين الروح والوطن، بين الإيمان والعمل. ومن عرف نفسه، عرف خالقه، ومن عرف خالقه، أحب وطنه، وسار في طريق السعادة والرضا، مطمئنًا بقوله تعالى:
“يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً”.
فمن زكّى نفسه بالإيمان، وبنى شخصيته بالعلم، وأخلص في حب وطنه، فقد جمع الهويتين الأسمى: هوية الروح التي تتصل بالله، وهوية الانتماء التي تعمّر الأرض، وبذلك تتحقق سعادة الدنيا، ورضوان الآخرة.
هوية النفس بين الإيمان والانتماء… طريق السعادة وبناء الإنسان والوطن


