الرئيسيةمقالات“بيوت لا يسمع بكاؤها أحد”
مقالات

“بيوت لا يسمع بكاؤها أحد”

“بيوت لا يسمع بكاؤها أحد”

“بيوت لا يسمع بكاؤها أحد”

بقلم: محمود سعيد برغش

 

كان الليل يهبط على المدينة كغطاء ثقيل، بينما تسير مريم في الشارع تحمل طفلها الرضيع، وذراعاها ترتجفان من البرد والخوف والتعب. لم تكن خطوتها مستوية… كأن الأرض تهتز تحت قدميها.

لم تتخيل يومًا أن تخرج من بيتها بهذه الصورة، وفي قلبها صرخة لم تجد طريقها للخارج.

قبل ساعات فقط، كانت تقف في منتصف شقتها الصغيرة، تلك الشقة التي لم تكن تليق بحلم امرأة، لكنها كانت تحاول أن تجعلها بيتًا دافئًا لأولادها الثلاثة في المدرسة، وطفلها الأخير الذي لم يُكمل أربعة أشهر. ثم جاء زوجها… سامح.

سامح… الاسم الذي لم يعد يحمل من الرحمة شيئًا.

كان قد تغيّر منذ سنوات؛ يطيل الغياب، يغضب بلا سبب، يرفع يده بسهولة، ويجرحها بكلمات حادة كالسكاكين.

وحين يثور، تتحول ملامح وجهه إلى شيء لا تنتمي إليه.

في تلك الليلة، اشتد غضبه، وصرخ، ودفعها بقسوة فسقطت على الأرض، بينما رضيعها يبكي من الفزع. حمل الطفل من يدها، ثم رماه فوق الأريكة كأنه شيء لا روح فيه.

رفعت عينيها إليه، وقالت بصوت منكسر:

— “طلّقني.”

ولم يفكر لحظة…

قال الكلمة التي كانت تخشاها دائمًا:

— “أنتِ طالق.”

خرجت من البيت، وهي لا تعرف إلى أين ستذهب. لم تكن وحدها؛ معها رضيع يتنفس بصعوبة من كثرة البكاء.

أما هي… فكانت تبكي من الداخل فقط، لأن دموعها انتهت.

1 — بيتٌ بلا دفء

استقبلتها قريبتها في البيت، لكن الهدوء لم يدم.

الكلام بدأ يطاردها:

— “ارجعي لعيالك، البيت بيتك.”

— “الراجل بيغلط وبيرجع.”

— “الست تتحمل… والعيال مش هيتربّوا من غير أبوهم.”

لكن مريم لم تعد تتحمل شيئًا.

فكّرت في الآية التي كانت تحفظها منذ صغرها:

﴿ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا ﴾

كانت الآية كأنها كُتبت عنها.

فهو لم يمسكها إلا ليؤذيها.

وتذكرت قول رسول الله ﷺ:

«لا ضرر ولا ضرار»

فهل بعد الضرب ضرر؟

وهل بعد الإهانة ضرار؟

ومع ذلك كانوا يقولون:

— “استحملي.”

لكنها كانت تعرف حديثًا آخر:

«خيركم خيركم لأهله»

وكانت تسأل نفسها:

— “أين الخير الذي كان يجب أن يكون؟”

2 — خوف لا يشبه أي خوف

في اليوم التالي، حاول زوجها أن يعيد الطفل إليها، ليس حبًا فيه… بل حتى يثبت أمام الناس أنه “قام بواجبه”.

ترك الطفل عند باب البيت بلا كلمة، وانصرف.

لكنه ترك معها خبرًا آخر… خبرًا جعل قلبها ينهار:

أنه ينوي إدخال “بنت خالته” للعيش مع الأولاد. فتاة صغيرة، لا خبرة لها، ولا قلب يعرف ما يعنيه أن تربي أطفالًا ليسوا أطفالها.

تذكرت الآية:

﴿ لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا ﴾

وكأن الله يهمس في قلبها:

“لن يضروك بولدك.”

وتذكرت قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

“لا خير في بقاء امرأة مع رجل يضرّها.”

ولأول مرة…

شعرت أن الشريعة تقف معها، لا ضده.

3 — باب القانون

ذهبت مريم إلى محامية في المنطقة. كانت ترتجف وهي تحكي… جرحٌ فوق جرح.

لكن المحامية نظرت إليها بثبات:

— “اسمعيني يا مريم… اللي حصلك مش ضعف، ده ظلم.

والظلم ربنا بيكرهه… والقانون كمان.”

ثم بدأت تعدّ لها حقوقها:

● الطلاق وقع… ويحسَب طلقة واحدة.

● الضرب جريمة (المادة 242 عقوبات).

● من حقك “تمكين من مسكن الزوجية”.

● ولو مش مناسب… القانون يلزمه يجيب “مسكن حضانة” ليكي ولولادك.

● الحضانة ليكي لحد 15 سنة… والرضيع ما ينفعش يبعد عنك.

● من حقك نفقة للمعيشة والمدارس والعلاج والملابس.

● ولو أخد حاجة من حاجاتك… تقدري تعمليله “تبديد”.

ثم قالت المحامية جملة وقعت على قلب مريم كالدواء:

— “انتي مش محتاجة تستحملي… انتي محتاجة تستردي حقك.”

لأول مرة…

تعرف أن القانون ليس بعيدًا عن الشرع.

فالشرع يقول:

﴿ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾

والقانون يقول:

— “لا إمساك بدون معروف… وإلا يُحاسَب.”

4 — المواجهة

وقفت مريم أمام زوجها في المحكمة، وهو ينظر إليها باستعلاء كعادته.

محاميه يضحك في هدوء، وكأن كل شيء مجرد لعبة.

لكنها لم تكن تلك المرأة المنكسرة.

كانت أمًّا تدافع عن حياتها… وكرامتها… وأولادها.

رفعت رأسها وقالت بصوت ثابت:

— “أنا مش راجعة.

ولا هقبل الذل تاني.

ولا هسيب ولادي لحد غريب.”

قال القاضي بعد أن استمع لكل الشهادات:

“تحكم المحكمة بتمكين الزوجة من مسكن الحضانة… وإلزام الزوج بالنفقة الواجبة قانونًا.”

كان الحكم عادلاً.

قريبًا من حديث النبي ﷺ:

«اتّقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة»

وفي لحظة لم تتوقعها…

انهار سامح.

كأن أول مرة يشعر أن مريم التي كان يظنها “ضعيفة” أصبحت أقوى مما يحتمل.

5 — امرأة وُلِدت من جديد

حصلت مريم على:

✔ مسكن حضانة باسمها

✔ حكم بالنفقة الشهرية

✔ حق الحضانة الكامل

✔ حماية قانونية من التعدي

✔ وأمان لأولادها

وفي الشقة الجديدة، جلست قرب نافذة مطلة على الشارع، تحمل طفلها الرضيع وتسمع أنفاسه الصغيرة.

مسحت على رأسه وقالت:

— “يا ابني… مفيش ظلم بيكسب.

وربنا شاف دمعتي… ونصرني.”

كانت الشمس تدخل الغرفة لأول مرة منذ سنوات…

ولم تكن شمسًا عادية.

كانت شمس بداية جديدة.

“بيوت لا يسمع بكاؤها أحد”

“بيوت لا يسمع بكاؤها أحد”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *