كلمة الرئيس التي أوقفت الانتخابات… وفتحت باب الشرعية من جديد
بقلم الجيوفيزيقي محمد عربي نصار
لم تكن كلمات الرئيس عبد الفتاح السيسي في السابع عشر والثامن عشر من نوفمبر 2025 مجرد تصريحات عابرة في سياق العملية الانتخابية، بل جاءت أقرب إلى لحظة سياسية فاصلة وضعت الانتخابات البرلمانية أمام منعطف خطير: فإما أن تكون معبّرة عن الإرادة الشعبية بحق، أو تتحول إلى إجراء شكلي لا يحمل من الديمقراطية إلا اسمها.
على وقع اتهامات متزايدة بوجود مخالفات جوهرية وإخلال بتسليم محاضر الفرز، وتصاعد الشكوك حول صحة تمثيل بعض النتائج، جاء خطاب الرئيس ليعيد ترتيب المشهد بالكامل، ويدفع بكل قوة نحو إعادة الاعتبار لجوهر العملية الانتخابية لا مجرد شكلها.
البيان الأول: لحظة مكاشفة مع الدولة والشارع
في خطاب رسمي عالي النبرة، حمل رسالة واضحة إلى الهيئة الوطنية للانتخابات بأن الشرعية لا تُفرض… بل تُكتسب، دعا الرئيس إلى:
مراجعة كل الطعون والشكاوى الجدية بدقة وشفافية تامة.
التأكيد على حق وكلاء المرشحين في استلام محاضر الفرز من اللجان الفرعية دون منع أو تأخير.
عدم التردد في إلغاء أي نتائج أو إعادة التصويت في أي دائرة إذا ثبت أن الإرادة الشعبية لم تُحترم
هذه العبارة حملت توقيعًا سياسيًا ورسائلاً متعددة الأوجه:
“حتى لو أدّى الأمر إلى إعادة الانتخابات في دائرة أو مرحلة كاملة، فحماية إرادة الناخب هي الفيصل.”
لم يكن الأمر مجرد توجيه إداري. لقد منح الرئيس – للمرة الأولى – غطاءً سياسيًا وقانونيًا للقضاء والهيئة الوطنية كي تتخذ قرارات قد تبدو صادمة لكنها ضرورية لإنقاذ مصداقية العملية الانتخابية
وبالفعل، لم تمر سوى أيام حتى أعلنت الهيئة إلغاء النتائج في 19 دائرة من أصل 70، في سابقة تكاد تكون الأولى من نوعها بهذا الحجم، وهو ما اعتبره مراقبون تطبيقًا عمليًا مباشرًا لرسالة الرئيس.
خطاب اليوم التالي: منابر الضمير قبل منابر البرلمان
في اليوم التالي، وأمام طلاب أكاديمية الشرطة، انتقلت الكلمة من إطار الدولة إلى ضمير المجتمع.
كلمة غير رسمية، لكنها أكثر تأثيرًا، وأكثر عمقًا، وأكثر وضوحًا في رسم ملامح ما يمكن تسميته بـ “أخلاقيات صندوق الانتخاب”.
ركز الرئيس على ثلاثة معادلات:
لا ديمقراطية بلا وعي انتخابي:
قال بوضوح إن التصويت لا يعني أن نختار الأقرب أو الأشهر أو الأغنى، بل الأكفأ والأقدر على خدمة الوطن.
لا قيمة لصوت يُشترى بالمال:
نقد الرئيس الرشاوى الانتخابية بشجاعة، وقال إن من يقبل “أسطوانة غاز أو كوبون أو حفنة مال” مقابل صوته، لا يخسر المرشح فقط… بل يخسر وطنًا.
الاختيار البرلماني… شبيه باختيار زوج لأختك:
تشبيه صادم لكنه عميق، يرسم الفرق بين الانتخاب كإجراء، والانتخاب كمسؤولية ومصير.
هنا لم يكن الرئيس يخاطب نواب البرلمان القادم، ولا حتى الهيئة الوطنية، بل كان يخاطب الناخب نفسه… باعتباره الأصل في الشرعية.
ما بين الكلمتين… انتقلنا من سؤال: من فاز؟
إلى سؤال أكبر: كيف فاز؟ ولماذا؟ وهل يملك حق الفوز؟
الكلمة الأولى وضعت الإطار القانوني والرقابي والسيادي لحماية إرادة الناخبين.
الكلمة الثانية وضعت الأساس الأخلاقي والإنساني والوطني لصناعة وعي الناخبين.
وفي هذه المساحة، تبلورت أهم رسالة في انتخابات 2025:
أن الشرعية ليست أرقامًا على ورق… بل ضمائر تتصادق عليها الدولة والناخب والقضاء معًا.
الأثر الفعلي للكلمة الرئاسية
لم تمضِ سوى أيام حتى بدأت مفاعيل الخطاب تظهر جليًا:
قرار إعادة الانتخابات في 19 دائرة كشف حجم الخلل، لكنه كشف أيضًا قوة النظام في تصحيح المسار لا إنكاره.
ظهور حالة وعى شعبية حول قيمة محاضر الفرز وحق المرشح في التوثيق والتظلم والطعن.
شعور واضح لدى الناخب بأن صوته لم يعد مجرد ورقة… بل وثيقة سيادية لا يجوز المساس بها.
بل إن كثيرًا من التعليقات الشعبية لم تعد تسأل:
“من سيفوز؟”
بل أصبحت تسأل:
“من يستحق أن يفوز؟”
وهنا يكمن التحول الحقيقي.
بين الصندوق والقاضي والرئيس… من يصنع شرعية البرلمان؟
في مصر، الإشراف القضائي على الانتخابات ليس مجرد ضمانة إجرائية، بل جزء من هيبة الدولة وهيبة العدالة. وكلمات الرئيس، تضمنت ضمنيًّا رسائل للقضاة قبل الناخبين:
أن حماية الصندوق ليست مهمة تقنية… بل مهمة سيادية وقضائية.
أن القاضي الذي يدير لجنة انتخابية لا يُدير عملية اقتراع فقط؛ بل يُدير مسار شرعية وطن بأكمله.
وأن الرئاسة لا تدافع عن نتائج… بل تدافع عن مبدأ: “صندوق شريف… يصنع مجلسًا شريفًا.”
مساحة للتأمل
ربما لم تكن كلمات الرئيس موجهة فقط للهيئة الوطنية أو للناخبين، بل كانت – في أحد وجوهها – رسالة إلى البرلمان القادم نفسه:
“إن لم تُبنَ شرعيتك على الثقة، فلن تبني للدولة مستقبلًا.”
وهنا تتجلى المعادلة الصعبة:
البرلمان يُصنع بالصندوق — ولكن الصندوق لا قيمة له إذا غاب عنه الضمير والقانون والشفافية.
الخلاصة
كلمة الرئيس لم تغيّر فقط طريقة النظر إلى الانتخابات، بل غيّرت تعريف الانتخابات نفسها؛ من سباق سياسي إلى مسؤولية وطنية، من مجرد مقاعد تُحسم بالأصوات، إلى شرعية تُصنع بالثقة، ومن موسم انتخابي عابر، إلى محطة تاريخية تقيس وعي الناخب ومصداقية الدولة.
وبين خطاب القانون وخطاب الضمير… بدأت انتخابات 2025 تتحول إلى اختبار وطني حقيقي، لا مجرد حدث سياسي عابر.
كلمة الرئيس التي أوقفت الانتخابات… وفتحت باب الشرعية من جديد


