حين يضيء الطريق من الداخل
بقلم/نشأت البسيوني
حين يبدأ الكلام من اعماق الانسان يتحول الصمت نفسه الى مساحة تسكنها المعاني التي لا تحتاج الى شرح ويصبح الطريق ممتدا بلا علامات ولا فواصل ولا نقاط كأنه سيل واحد يتحرك بثبات داخل الروح دون ان يتوقف ليقول ما تعجز عنه الالسنة وفي اللحظة التي يظن فيها الانسان ان الصمت فراغ يكتشف انه الحقيقة التي تكشف ما خفي وتنزع غبار التعب عن القلب وتجعله
يرى كل شيء بوضوح من غير حاجة الى صوت ولا الى شرح طويل فالصمت ليس هروبا ولا انسحابا بل هو لحظة قوة يراجع فيها الانسان دواخله ويعيد ترتيب خطواته ويفهم معنى البقاء واقفا رغم كل ما مر به من انكسارات خفية ويعرف ان الكلمات حين تتكاثر تضيع منها القيمة بينما الصمت حين يحضر يمنح كل احساس وزنه الحقيقي ويعيد تعريف الالم والفرح والخوف والرجاء
في مشهد واحد لا يحتاج الا الى صدق داخلي وهكذا يمشي الانسان في رحلته متحملا ما يثقل روحه ومتمسكا بما يشبه الضوء الذي لا يراه الا حين يهدا كل شيء من حوله فيبدأ يسمع صوت الداخل الذي يذكره بان القوة ليست في العلو ولا في الصراخ بل في القدرة على الاستمرار وفي القدرة على رؤية الشقوق الصغيرة التي لا يلاحظها احد ثم جبرها بصبر هادئ يجعل القلب اقوى من قبل
حتى لو لم ينتبه احد لهذا الجبر الذي يحدث في الخفاء فالاثر لا يحتاج شاهدا واللطف لا ينتظر شكرا والجبر الحقيقي هو الذي يحدث حين لا يراه احد ليترك في النفس قوة لا تزول ويجعل الانسان يصدق ان ما ينكسر يمكن ان يعود اجمل وان ما يسقط يمكن ان ينهض وان ما يضيع يمكن ان يجد طريقه من جديد من غير ان يشعر احد بما مر به من تعب او خوف وفي امتداد هذا
الطريق الذي لا يعرف توقفا يظل الانسان يبحث عن مساحة يجد فيها نفسه بعيدا عن ضجيج العالم فيتعلم ان الجبر ليس عملا عابرا ولكنه بناء متواصل داخل الروح يجعل الخطوات اكثر ثباتا ويكشف للانسان ان ما ظنه عبئا كان سببا في نضجه وما حسبه انكسارا كان بداية لقوة جديدة تولد داخل قلبه بلا ضجيج فالحياة لا تعطي دروسها بصوت مرتفع ولا تمنح رسائلها في لحظة واحدة لكنها
تتسلل ببطء داخل التجربة لتقول له ان كل ما مر به لن يضيع وان كل لحظة صبر عاشها صنعت جانبا من روحه التي يقف بها اليوم اكثر قوة واكثر فهما لمعنى الاستمرار ويكبر الانسان حين يعرف ان اللطف هو الطريق الوحيد الذي لا يخونه احد لان اللطف حين يخرج من داخله يعود اليه في لحظة يحتاج فيها الى ما يخفف عنه ثقل الحياة وما يجعله يشعر بان وجوده ما زال له قيمة في عالم
يمشي بسرعة لا تلتفت لقلب تعب ولا لروح تبحث عن سند ولذلك يصبح جبر الخواطر عملا يضيء الطريق من جديد ويعيد للانسان ايمانه بنفسه ويجعله يتذكر ان كل كلمة خير قالها وكل يد امتدت لمساعدة غيره وكل مرة اخفى فيها وجعا كي لا يثقل على احد كانت سببا في ان يظل واقفا رغم كل ما انكسر داخله دون ان يراه احد ويمضي الانسان في رحلته الطويلة يلتقط من التفاصيل
الصغيرة ما يعيد اليه اطمئنانه ويجد في الصمت معنى اوسع من الكلام فيصير الصمت بيتا يسكنه حين تضيق به الحياة ويصير الجبر رسالته الاولى التي يحملها في قلبه دون انتظار مقابل ويصير اثره على من يحب شاهدا على قلبه الذي لم يقسو رغم ما مر به من تعب ولم يترك نفسه تنطفئ رغم كل ما فقده من امان وفي هذا الامتداد الطويل يتأكد من ان الطريق الحقيقي ليس في الوصول بل
في البقاء صادقا مع روحه وفي القدرة على ان يجمع شتاته كلما ظن انه اوشك على السقوط وحين يصل الانسان الى اللحظة الاخيرة في هذا الطريق يدرك ان السلام الذي بحث عنه طويلا لم يكن خارجا عنه بل كان بداخله ينتظر اللحظة التي يفهم فيها انه هو الذي يصنع نجاته وهو الذي يجبر قلبه وهو الذي يعيد تشكيل روحه كلما اصابها التعب وان القوة التي بحث عنها في الخارج لم
تكن الا في داخله وانه مهما طال الليل فان داخله يحمل ضوءا يكفي ليرى الطريق وان هذا الضوء لا ينطفئ مادام قادرا على العطاء ومادام قادرا على ان يمد قلبه للحياة من جديد وحين يمضي الانسان في بحثه عن معنى ثابت يشعر انه لا ينتمي لشيء اكثر من انتمائه لصوته الداخلي الذي يرشده دون ضوضاء ويقوده الى ما يعجز الكلام عن شرحه وتكبر داخله المساحة التي يتعلم
فيها كيف يكون صادقا مع نفسه وكيف ينصت لما يهمس به قلبه دون خوف من ضعف او من لحظة ارتباك فيعرف ان الصمت الذي يختاره ليس هروبا لكنه استراحة ضرورية يعود منها اقوى واقدر على فهم ما يحدث حوله من تغيرات قد تبدو عادية لكنها تترك في داخله اثرا لا ينسى ومع مرور الوقت يكتشف ان كل المواقف التي مرت عليه مهما كانت بسيطة صنعت جزءا من وعيه وعلمته كيف
يرى الحياة بعين مختلفة وكيف يميز بين من يكسر روحه ومن يجبره ومن يزيد ثقله ومن يخففه ولو بكلمة صغيرة ويستمر الانسان في رحلته وهو يحمل بداخله ما يكفيه من التجارب التي صقلته وما تركته الايام في قلبه من ندوب صامتة تحولت مع الوقت الى قوة تدفعه الى الامام حتى لو ظن انه لا يملك الشجاعة الكافية للمواصلة يجد نفسه يتحرك بخطوات بطيئة لكنها ثابتة لان
الروح حين تعرف طريقها لا تعود للوراء مهما حاولت الحياة ان تثقلها بالهموم ومهما عبرت حوله عواصف لا تهدا يظل داخله جزء هادئ يعرف ان كل شيء سيمر وان كل لحظة ضيق تحمل في عمقها بداية جديدة تنتظر من يراها بعين صابرة وان النور الذي يخرج من الداخل اقوى من كل ما يخيفه في الخارج ومع كل صباح جديد يدرك الانسان ان الجبر ليس عملا يقوم به للناس فقط بل هو
واجب يقدمه لنفسه قبل الجميع فيسند قلبه حين يتعب ويمسح عن روحه غبار الحزن الذي تراكم عبر الايام ويمنح نفسه فرصة ليبدأ من جديد حتى لو كان الطريق طويلا وحتى لو كان وحيدا في هذه الرحلة التي لا يعرف اسرارها غيره وفي كل مرة ينهض فيها يشعر ان بداخله طاقة لم يعرفها من قبل طاقة تجعل الخطوات اسهل وتجعل النظر الى الامام ممكنا رغم كل ما عاناه من سقوط
ويعرف الانسان في لحظة صدق مع نفسه ان الحياة لا تبحث عن من يصرخ بل تبحث عن من يصمد وان القلوب التي تعرف معنى الجبر لا تنكسر بسهولة لانها تعلمت ان تجمع نفسها بعد كل وجع وان تلم اطرافها كلما شعرت انها على وشك التبعثر وتعلمت ان لا تعطي ضعفها لاحد وان لا تترك حزنها مكشوفا امام عيون لا تفهمه ومع الوقت يعرف ان الاثر الذي يتركه في قلوب الناس هو ما يبقى
وان اللطف الذي يمنحه لغيره يعود اليه في اصعب اللحظات دون ان يطلب ودون ان ينتظر وحين يقترب الطريق من نهايته يدرك الانسان ان السلام الذي بحث عنه في كل زاوية من الدنيا كان يسكنه من البداية ويعرف ان الصمت الذي ظنه خواء كان مخزنا كبيرا للمعاني التي لم تستطع الكلمات حملها وان القوة التي حسب انه فقدها كانت تتشكل داخله بصمت وان الضوء الذي كان ينتظره
لم يأت من الخارج بل خرج من قلبه حين قرر ان يجبر نفسه وان يرفعها كلما سقطت وحين يعرف هذه الحقيقة يتغير كل شيء ويصبح الطريق مهما طال اقل ثقلا ويصبح العالم مهما ضاق اوسع مما ظن ويصبح القلب مهما تعب اقدر على العطاء وعلى البقاء واقفا دون ان يشعر انه وحده لان النور الذي يضيء طريقه لم يعد قابلا للانطفاء مادامت روحه قادرة على ان تمنح وتسامح وتستمر
حين يضيء الطريق من الداخل


