شقّ النور
بقلم / حسين إسماعيل
” ليس القلبُ لحمًا فحسب، بل بابٌ إذا فُتحَ عاد الجسدُ طريقًا إلى المعنى”
كانت أرضُ بني سعدٍ صباحَ ذلك اليوم دقيقةَ الظلّ، كأنّ الرملَ يمسك أنفاسَه لئلا يوقظ السكون. بيتُ حليمة ساكنٌ إلّا من خوارِ شاةٍ امتلأ ضرعُها فجأة بعد قحطٍ طال، ونَسيمٍ يتلو آياتٍ لا يسمعها غيرُ من تعلّم الإصغاء. في الفِناء طفلٌ يلمعُ في عيون الرؤية كما يلمعُ الماءُ في كفّ عطشان؛ يلعب مع الغلمان، لكنّ عينيه تُحافظان على شُعلةٍ لا تطفئها الضحكات
لم تكن حليمةُ تفهمُ تمامًا سرَّ البركة، ولكنّها تعرفُ آثارَها: خبزٌ يكفي، ولبنٌ لا يُحرِج الإناء، وبالٌ مطمئنّ كأنّ البيوتَ حين يسكنها الحقُّ تتّسع، والحجارةُ تتعلّم الرِّقّة
وبينما الصغارُ يركضون، جاءه رجلانِ في ثوبٍ أبيضَ ليس من غبار الطريق، كأنّهما ظِلّانِ يمشيانِ من جهة النور. سلّما عليه بسلامٍ يسكب السكينة، فأجابهما الطفلُ كمن يعرفُ الموعد. حمله أحدُهما برفقٍ ووضعه على الرملِ الدافئ، فانشقّ الصمتُ قبل أن ينشقّ الصدر لم يعلُ صراخ، ولم يَجرِ دم. كان كلّ شيءٍ يعملُ بقانونٍ أدقّ من السِّكين؛ مدّ الرجلُ يدَه إلى صدرِ الطفل، ففُتح كما تُفتحُ نافذةٌ تعِدُ بالهواء. استخرج من قلبه علقةً صغيرة وقال: هذا حظُّ الشيطان منك. ثمّ أتى الآخرُ بطَسْتٍ من ذهبٍ وماءٍ لا تُخطئه الروحُ إذا شمّت: ماءُ زمزم. غُسِل القلبُ في بياضٍ يشبهُ العهد، ثم أُعيد إلى مكانه، وأُعيد الصدرُ كما كان. لم تتبدّل ملامحُ الطفل إلّا بأنّ السكينةَ ازدادت وضوحًا فيه، كأنّ الجبينَ صار مرآةً تُرى فيها سماءٌ أوسع ركض الصبيانُ إلى حليمة، تسبقُ أقدامُهم ألسنتهم: «قُتِل محمد!» قامت وهي تمسكُ بقلبٍ يسبقها، وجاء زوجُها معها. فلمّا بلغاه كان الطفلُ قائمًا، عيناهُ أبعدُ من الخوف، وأقربُ من الطمأنينة. رأت أثرًا دقيقًا في صدره، كخيطٍ من شفاء، فبكتْ شكرًا دون أن تفهم كلّ ما وقع
في الداخل، على الجهة التي لا تُرى، كان المشهدُ أوسع. رأى الطفلُ ما لا تقيسه الكلمات: نهرًا من ماءٍ يَعدُ بالوضوح، ملاكًا يغسلُ ما لا تُدركه الأكفّ، وقلبًا يُعادُ تشكيلُه في صمتٍ كأنّه يلبسُ إهابًا من معنى. لم يكن الألمُ حاضرًا؛ كان هناك نورٌ يَعرفُ طريقه، كأنّ فطرةً قديمةً عادت لتتكلّم بلغتها الأصل
ذلك اليومُ لم يتغيّر فيه الرملُ وحده؛ تغيّرت مقاييسُ الأشياء. فالقلوبُ ميزانُ العالَم، وإذا استقام الميزانُ توازنَ الجسدُ وهدأتِ الرِّغباتُ في مواقعها الصحيحة. منذ تلك الساعة صار الصبيُّ يرى ما وراء العادة: كلُّ تفصيلٍ في الكون يحملُ وظيفةً تُسبّح. ظلُّ نخلةٍ يعلّم الممرَّ كيف لا يضيع، وخطوُ أمٍّ على التُّرابِ يُوقظ معنى الحنان، وصوتُ عنزةٍ في المساءِ يذكّر بأنّ الرزقَ يدٍ تأتي إذا صَدَقَت اليدان
لم تكن حادثةُ شقّ الصدر مجرّد حدثٍ في سيرةِ طفلٍ مُبارك؛ كانت درسًا مُعلَنًا عن نقلةٍ وجودية: أن يُطهَّر الوعاءُ الداخليّ ليكون صالحًا لحمل الأمانة. فالإنسانُ جسدٌ يسير، لكنّه—إذا عُرض عليه النور—قلبٌ يسري. الجسدُ طينٌ كريمٌ إذا وُجه، والقلبُ قبلةُ التوجيه
ما معنى أن يُغسلَ قلبٌ بماءِ زمزم؟ إنّه إعلانٌ أن المياهَ التي نسقي بها ظمأ الجسد لا تكفي وحدها؛ لا بدّ من ماءٍ آخر يسقي ظمأ المعنى. وما معنى أن تُستخرج علقةٌ صغيرةٌ ويُقال: هذا حظُّ الشيطان؟ إنّه تعريفٌ للحريّة في أعلى صُوَرها: أن يُنزع من الداخل سببُ التبعثر، فتُرفع يدُ الهوى عن مقود النفس، ويستقيمُ السيرُ على حدّ الطريق
الطفولةُ التي شهدت الحادثةَ علّمتنا شيئًا آخر: أنّ الاستعدادَ للنور لا ينتظر اكتمالَ العُمر، وأنّ القلوبَ تُصاغُ صِغَرًا لتُحسنَ حملَ الكِبَر. لم يحتج الطفلُ إلى لغةٍ يشرح بها ما وقع؛ كان وجهُه يتكفّل بالبيان. وإذا سُئل الرملُ قال: مرّ بي نورٌ لم يَحْتَج إلى أثر
في تلك الليلة، حين ينام البيتُ وتغيبُ الأصوات، نهض الطفلُ من فراشه. وقف عند باب الفِناء، يحدّق في السماء التي تبدو قريبةً كأنّها سقفُ بيتٍ صغير. كان الصمتُ يتهجّى اسمًا، وكانت النجومُ تنحازُ إلى من يعرفُها. لم تكن رؤيا، بل يقظةٌ تتعلّمُ أولَ الدرس: أنّ القلبَ إذا صَفَا صار نافذةً، وأنّ النافذةَ إذا فُتحت جاء الهواءُ بما لا تُحصيه الحواسّ
رأى نفسه—لا بعيون الرأس—كأنّه قنديلٌ تُزادُ فيه الزيتات. وكلّما امتلأ القنديلُ صحّت حركةُ الجسد، وأدركت القدمُ أنّ الطريقَ ليس أرضًا فحسب بل معنى يُوصل. صار الضيقُ أقلّ، واتّسع في صدره مكانٌ للناس فالطهارةُ ليست انصرافًا عن العالَم، بل عودةٌ إليه على هيئةِ رحمة
بعد أيامٍ، لمّا كانت حليمةُ تهيّئ الخبزَ، نظرت إليه طويلًا. لم تسأل، فهي تعرفُ أن بعضَ الأجوبة أكبرُ من أسئلةِ الأمهات قالت لزوجها: «ما رأيتُ طفلًا يُعلّمُ الصمتَ كيف ينطق». ابتسم الرجلُ، وألقى نظرةً على رُقْعةِ السماء فوق البيت؛ ثمّ قال في نفسه: ” بعضُ البيوت تُبارَك لأنّ فيها ضيفًا من جهة النور، انه الصمت المقدس”
ليست هذه الحكايةُ تقريرًا طبّيًا عن صدرٍ فُتح ولُحم، ولا روايةً عجائبيةً تُستعمل للدهشة. إنّها—في عُمقها—خبرُ قلبٍ أُعدَّ لحملِ الحقيقة، وخبرُ إنسانٍ تُهيّأ له الطريقُ من الداخل قبل أن يُؤمر بالسير في الخارج. لذلك يصحّ أن تُقرأ الحادثةُ في كلّ زمانٍ كمرآةٍ لمن أراد الارتقاء: ليس المطلوبُ أن تتكرّر المعجزةُ في أجسادنا، بل أن يتكرّر معناها في قلوبنا
فكيف يرتقي مَن أراد أن يستعير من تلك الحادثة قانونَه للعيش؟
أن يبدأ من النية: أن يقصدَ وجهًا واحدًا فلا يتوزّع قلبُه على أبوابٍ كثيرة. وأن يحرسَ الحواسّ، فإنّ القلبَ بابٌ، والحواسّ نوافذُه، فإذا كثرتِ الرِّياحُ ضاع الدِّفء. وأن يُقيمَ الصدق في القول والعمل؛ فالصدقُ ماءُ زمزم الذي لا يَغور، به يُغسل القلبُ من كدر المداورة. وأن يمتحنَ طعمةَ اليد: يأكل من حلالٍ ويعطي من حلال، فإنّ الجسدَ إذا طاب طاب مسيره، وإذا خَفَّ على الأرض خفَّت الأرضُ عليه
وأن يتعلّم الذكر لا كشعارٍ يُكرَّر، بل كيقظةٍ تُقيم المعنى في لحظة العيش: أن يقول اسمَ الله وهو يحرثُ ويكتبُ ويبرأُ ويُصالح، فيُصبح العملُ بابَ عبورٍ لا مجرّد حرفة. وأن يُكثِر الرحمة؛ فهي المكيالُ الذي يوزَنُ به كلّ علم. وأن يُعدَّ قلبَه للخلاءِ قليلًا: ساعةً ينسحبُ فيها من ضوضاء الكثرة، فينظّفُ داخلَه كما يُنظّف المرءُ دارَه؛ يرفعُ غبارًا قديمًا، ويُعيد ترتيبَ الأثاث بحيث لا يعثرُ بالليل
ثمّ الصحبة: فكما جاء الملَكانِ لطفلٍ واحد، يحتاجُ كلُّ سالكٍ إلى رفيقَيْنِ من البشر: عالِمٍ يُعلّمُه الحُجّة، وصالحٍ يُعلّمُه السكينة. ومعهما كتابٌ يذكّر، وعملٌ في الناس يُصلح. فالطريقُ الوجوديُّ ليس اعتزالًا؛ هو دخولٌ في العالَم بيدٍ نظيفةٍ وقلبٍ مُضاء
إذا فعل ذلك، لن يرى صدرَه يُشقّ على الرمل، لكنّه سيرى في داخله نافذةً تُفتح، وسيحسّ بشيءٍ صغيرٍ يُنزع من قلبه: عادةٌ ظلّت تُثقِلُه، شهوةٌ عمياءُ كانت تقوده، كِبْرٌ خفيٌّ يقفُ بينه وبين حقيقة نفسه. وحين تُغسَل داخليّته بماءِ صدقِه وذكره ورحمته، سيعرفُ أنّ الجسدَ ليس خصمًا للروح، بل مركبُها المكرّم، وأنّ الارتقاءَ ليس قفزًا فوق التراب بل مشيًا عليه بحقّ عاد الصبيُّ إلى لعبه كما يعودُ النهرُ إلى مجراه، لكنه من يومها كان إذا ضحكَ سكنَ الهواءُ حوله، وإذا سكتَ فهم الصمتُ ما يريد. لم يكن ذلك لأنّ صدرَه صار كتابًا، بل لأنّ قلبَه صار بيتًا يصلحُ أن تسكنه الأمانة. ويوم يكبرُ هذا الصبيُّ، سيأتيه وحيٌ من جهة السماء التي رآها قريبًا تلك الليلة؛ لكنّ الوحيَ حين ينزل لا ينزل على فراغ، بل على قلبٍ أُعدَّ كما تُعدّ الأرضُ للبذر وهكذا، من خصوص الحادثة إلى عموم المعنى:
إنّ شقَّ الصدر ليس شعارًا للماضي، بل قانونًا للحاضر: كلُّ ارتقاءٍ يبدأ من الداخل. فمن أراد أن يعلو جسدُه—أي أن تصيرَ قواه مطيّةً للحقّ لا قُطّاع طريق—فليعمل في منزلة قلبه: يطهّره من حظّ الهوى، يسقيه بماءِ الصدق، يصحبه بالرحمة، ويعرضه لضياءِ الذكر. عندئذٍ يمشي في الأرضِ خفيفًا، وتُصبح خطواتُه جزءًا من توازن الكون، ويُصبح بيتُه الصغير منازلَ للسكينة؛ فإذا نظر مرّةً إلى السماء، وجدها قريبةً كما كانت يوم وقف الطفلُ عند باب الفِناء، وعرف أنّ بين الطينِ والنورِ عهدًا قديمًا لا ينقطع
” من وفّى بالعهد، شُقَّ له في كلّ يومٍ صدرُ ضيقٍ جديد، وغُسل قلبُه بماءِ معنىٍ لا ينتهي”
شقّ النور


