استراتيجية الهيمنة وتفكيك النظام الدولي: قراءة في وثيقة الأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية 2025 وتعاملها مع القانون الدولي
بقلم : د. عبد الرحيم جاموس
تشكّل وثائق الأمن القومي للدول الكبرى أحد أهم المفاتيح لفهم اتجاهات القوة في العالم، إذ لا تعبّر فقط عن أولويات سياسية أو عسكرية، بل ترسم ملامح النظام الدولي نفسه، وتحدّد من يُمسك بمفاتيح القوة ومن يُعاد تشكيل دوره وفق منطق المصالح الكبرى. والوثيقة الأمنية الصادرة لعام 2025 تمثّل نموذجًا صارخًا لهذا التحوّل، إذ تكشف عن انتقال واضح من فلسفة “التعددية القانونية” إلى منطق “التفوق والسيطرة”، بما يحمله ذلك من تداعيات خطيرة على مبادئ القانون الدولي، وقرارات الشرعية الدولية، وعلى تماسك منظومة الأمن الجماعي.
من القراءة الأولية للوثيقة، يتضح أنها لا تكتفي بتحديد الأخطار التي تراها الدولة الكبرى مهددة لمصالحها، بل تضع نفسها في موقع الحَكَم والمُنفِّذ في آن واحد؛ فهي تمنح ذاتها حق التدخل، وحق تحديد العدو، وحق تعريف الاستقرار، وحق استخدام القوة خارج إطار المؤسسات الدولية.
وهذا بحدّ ذاته يمثل خروجًا صريحًا على ميثاق الأمم المتحدة، الذي بُني على مبدأ المساواة في السيادة وعدم التدخل، وصون السلم عبر منظومة جماعية لا فردية.
أولًا: انتهاك صريح لمبدأ المساواة في السيادة
تتعامل الوثيقة مع العالم من زاوية فوقية، تُقسّم الدول إلى حلفاء يجب دعمهم مهما خالفوا القانون، وخصوم يجب كبحهم مهما التزموا بالقواعد الدولية. وهذا المنطق يعيد إنتاج صيغة الهيمنة التقليدية، ويتجاهل المادة 2 من ميثاق الأمم المتحدة التي تساوي بين الدول دون تمييز.
فحين تمنح دولة واحدة لنفسها الحق في إعادة تشكيل الأنظمة الإقليمية، أو إدارة صراعات بعينها دون تفويض أممي، فإنها تنتقل من موقع العضو في الجماعة الدولية إلى موقع “القيادة فوق القانون”. وهذا ينعكس مباشرة على استقرار الشرق الأوسط، حيث تصبح السيادة مسألة نسبية، وتصبح القواعد القانونية مرهونة بموقع الدولة من شبكة التحالفات.
ثانيًا: شرعنة القوة خارج إطار الميثاق
تنص الوثيقة على ضرورة الحفاظ على “الجاهزية لاستخدام القوة عند الضرورة”، دون الالتزام بآليات التفويض أو بحدود الدفاع عن النفس.
وهنا تظهر بوضوح فكرة “الضربة الاستباقية” التي سبق أن أثارت أزمات عالمية مطلع الألفية ، هذا الاستخدام المنفرد للقوة يعتبر خرقًا مباشرًا للمادة 2/4 من الميثاق، ويضع القانون الدولي في موقع الهامش أمام اعتبارات الأمن القومي لدولة واحدة.
هذه الفلسفة ليست نظرية إبستمولوجية أو ترفًا لغويًا؛ فهي تُترجم عمليًا في دعم تدخلات عسكرية، أو في تزويد أطراف إقليمية بالسلاح، أو في إطالة أمد الحروب عبر تغذية ميزان القوى من طرف واحد. وبذلك، تُصبح القوة معيارًا لشرعية الفعل السياسي، لا القانون ولا التوافق الدولي.
ثالثًا: تغييب كامل للشرعية الدولية في القضية الفلسطينية
الجزء المتعلق بالشرق الأوسط يُظهر بوضوح الانحياز الأعمى لإسرائيل باعتبارها “حليفًا استراتيجيًا”، دون أي ذكر للقرارات الدولية التي تؤكد حق الشعب الفلسطيني في التحرر وإنهاء الاحتلال. فلا ذكر لقرار 242 أو 338 أو 3236 أو رأي محكمة العدل الدولية حول الجدار، ولا إشارة لمسؤوليات القوة القائمة بالاحتلال بموجب اتفاقيات جنيف.
كل ذلك يُستبدل بخطاب أمني يختزل الصراع في “محاربة الإرهاب” وتثبيت أمن إسرائيل، بينما تُزال من الصورة حقيقة الاحتلال وجرائم الاستيطان والتهجير.
بهذا التجاهل، تتنصل الدولة الكبرى من مسؤوليتها الأخلاقية والقانونية كعضو دائم في مجلس الأمن، وتحرم الفلسطينيين من الحد الأدنى من الحماية المفروضة بالقانون الدولي الإنساني.
الأخطر أن الوثيقة تُحمّل الفلسطينيين مسؤولية “تهدئة النزاع”، بينما تتجاهل التزامات القوة القائمة بالاحتلال، في قلب معادلة مقلوبة لا تستقيم مع أي من قواعد الشرعية الدولية.
رابعًا: المسؤولية الدولية… بين الالتزام والتنصّل
تتحمل الدول الكبرى مسؤولية خاصة في حماية السلم العالمي، لكن الوثيقة تكشف عن تحول استراتيجي نحو “انتقائية القانون”، بحيث تستخدم الشرعية الدولية ضد الخصوم فقط، بينما تُعطّل تطبيقها على الحلفاء.
وهذا يخلق بيئة دولية مضطربة، تُصبح فيها القرارات الدولية رهينة للمصالح السياسية، لا للعدالة أو لمبادئ القانون.
هذا النهج يهدد البناء القانوني الذي استقرت عليه العلاقات الدولية لعقود ، فعندما تُصبح قوة القانون خاضعة لموازين التحالفات، فإن الدول الضعيفة تفقد مظلة الحماية، وتتحول الأمم المتحدة إلى مؤسسة شكلية عاجزة عن فرض قراراتها.
خامسًا: أثر الوثيقة على السلم والاستقرار الدوليين
تفتح الوثيقة الباب واسعًا نحو مرحلة جديدة من عدم الاستقرار العالمي:
1. إضعاف مجلس الأمن عبر تعميم مبدأ التحرك خارج الشرعية الدولية.
2. تكريس سباق التسلّح بسبب تبنّي منطق التفوق العسكري الدائم.
3. تعقيد الأزمات الإقليمية بدل حلّها عبر تغليب المقاربة الأمنية على السياسية.
4. إطالة الصراعات العادلة مثل القضية الفلسطينية عبر تجاهل جذورها القانونية.
5. إضعاف العدالة الدولية بتهميش دور محكمة العدل الدولية ومجلس حقوق الإنسان.
وهذا الاتجاه يُحوّل القانون الدولي من مرجعية عليا إلى أداة سياسية تُستخدم حين تخدم مصالح القوى الكبرى، وتُهمل حين يتعلق الأمر بحقوق الشعوب المحتلة، وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني.
خلاصة نقول :
تكشف وثيقة الأمن القومي الأمريكي 2025 عن رؤية أحادية للعالم تُعيد تشكيل النظام الدولي وفق مبدأ “حق القوة”، بدل “قوة الحق”. وهي تُضعف الشرعية الدولية، وتُقلّص دور الأمم المتحدة، وتعزز التدخلات العسكرية، وتُهدد الاستقرار الإقليمي، خاصة في الشرق الأوسط. والأخطر أنها تُكرّس الانحياز التام لإسرائيل، متجاهلة حقوق الشعب الفلسطيني وقرارات الشرعية الدولية.
إن قراءة هذه الوثيقة، في سياق ما يجري في غزة والمنطقة، تؤكد أننا أمام تحول عميق في الاستراتيجية الدولية، يحتاج إلى مواجهة سياسية وقانونية متماسكة، وإلى تحرك جماعي يعيد الاعتبار للقانون الدولي كمرجعية، لا كأداة تُستخدم عند الطلب.
الرياض 8 ديسمبر 2025م
استراتيجية الهيمنة وتفكيك النظام الدولي: قراءة في وثيقة الأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية 2025 وتعاملها مع القانون الدولي


