الرئيسيةمقالاتهوية تتآكل بصمت: من العناق العابر إلى ضياع البوصلة
مقالات

هوية تتآكل بصمت: من العناق العابر إلى ضياع البوصلة

هوية تتآكل بصمت: من العناق العابر إلى ضياع البوصلة

هوية تتآكل بصمت: من العناق العابر إلى ضياع البوصلة

بقلم / حسين اسماعيل

 

يبدأ المشهد دائماً من مكان أعمق بكثير مما يبدو على السطح؛ فالقضية ليست لقطة عابرة لزميل يحتضن ممثلة أمام زوجها، ولا لحظة عاطفية تُسجَّل على منصة ثم تنتشر كالنار فى الهشيم، بل هي علامة على خلل أكبر يخص الطريقة التى نُعيد بها تعريف أنفسنا، وكأن الهوية قابلـة لإعادة الصياغة فى كل موسم. المجتمع حين يفقد إحساسه الداخلى بالحدود، يبدأ فى اعتبار ما كان مستهجناً «طبيعياً»، وما كان غريباً «عصرياً»، وما كان مجروحاً «حرية». هنا بالضبط يولد الارتباك، ليس فقط فى وعى الكبار، بل فى أرواح الصغار الذين يرسمون تصوراتهم للعالم من خلال ما يرونه لا ما يُقال لهم                                  

فالمشكلة هنا ليست فى قبلة عابرة ولا فى عناق على منصة، بل فى الترويج لفكرة تبدو للوهلة الأولى «عادية»، بينما هي فى الحقيقة دخيلة، غريبة، مستوردة من ثقافة أخرى لا علاقة لها بجذور الناس فى الشارع المصرى. فالهويّة ليست زياً يمكن تغييره حسب الموسم، ولا شعراً يمكن صبغه بألوان الموضة. الهوية أشبه بالرقم القومي، جزء ثابت لا يمكنك أن تستيقظ فجأة وتقرر استبدال رقم 1 برقم 2 فقط لأن «التريند» يميل إلى التغيير. إنها مجموع ما راكمته الأجيال من طباع، وخجل، ونخوة، وشعور داخلى بأن هناك حدوداً مرئية وغير مرئية، من يتجاوزها يخرج من دائرة «إحنا»، إلى دائرة هما

وحين نصل إلى هذا المنعطف الذي تختلط فيه القيم، يصبح من حقّنا أن نتعامل مع بعض المشاهد بنفس حسّ التحذير الذي نتعامل به مع علب السجائر. تخيّل أن تظهر على الشاشة عبارة تقول: «هذا السلوك لا ينتمي للهوية المصرية… وقد يؤدى الإكثار منه إلى تآكل النخوة وتشويه الذوق العام». وربما نضيف سطراً آخر لا يقل أهمية: «التقليد الأعمى يبهت الألوان». فالمسألة ليست فى الجرأة أو الانفتاح كما يروّجون، بل فى انزلاق بطيء يجعل الإنسان يبدو عالقاً بين ثقافة ليست له، وهوية لم يعد يعرف كيف يدافع عنها                                                                                                

وعندما نقول إن الهوية لا تقبل هذا النوع من الاستعراض بشكل عام وليس بصدق وحق اليقين تخصصيا لشخص بعينه، فلست من هواة اصطياد كبش للفداء، فذلك ليس صوت «الرجعية» كما يُطلقون، ولا «تجسيداً للتحكم فى الآخرين» كما يدّعون، بل لأن الهوية الثقافية فى مصر – بتنوعها وقِدمها – نشأت على توازن بين الحشمة والحرية، بين التعبير والانضباط، بين أن تحب وتُظهر حبك، ولكن دون أن تضع الآخرين فى موقف حرج أو تُربك الإحساس العام باللياقة. الناس هنا تعتز برموز بسيطة؛ وقفة رجل تحترم زوجته، نظرة تحفظ كرامة امرأة، مسافة تليق بالعلاقات الاجتماعية. هذه التفاصيل الصغيرة هي التى تصنع ملامح الهوية، وهي التى تجعل الإنسان «واضح اللون»، لا «باهتاً» لأنّه ذاب فى تقليد لا يفهمه، وأؤكد وأجزم، بل أكاد أقسم، عن تجارب تعشش في الذاكرة، أن من تقلدهم إذا أحسوا منك تمسكك بهويتك وروافدها سيزداد احترامهم لذاتك                                                                           

أما تلك العبارة المكررة التى تُلقى فى وجوه المعترضين: «أنت غير متفتح»، فهى ليست سوى محاولة لإسكات النقاش. كلمة جاهزة، مثل ورقة ترفعها فى وجه كل من يقول: «هذا لا يشبهنا». لكن التفتح الحقيقى ليس أن تنسلخ عن نفسك، بل أن تفهم العالم وأنت ثابت الجذور. التفتح هو أن تنظر إلى ثقافات الآخرين بإعجاب أو نقد، لكن دون أن تفقد لونك. أما التقليد الأعمى فهو أسهل الطرق إلى فقدان الهوية، وأسرع الطرق إلى أن تصبح مجرد نسخة باهتة من غيرك                                                     

وبين الهوية والعقيدة والحرية الشخصية والتقليد، يقف الإنسان المصرى اليوم أمام شبكة مفاهيم متداخلة يحتاج أن يفهمها بوضوح. الهوية، فى معناها الأكاديمي، ليست مجرد عادات أو لهجة أو خصوصية اجتماعية، بل منظومة كبرى من المعاني التى تشكل إحساس الفرد بانتمائه. هي ما يجعلك تشعر أن هناك أفعالاً «تشبهنا» وأخرى «لا تشبهنا». هي الجذر الذي يغذى السلوك حتى لو لم يُكتب فى قانون. الهوية ليست رأياً، بل ذاكرة جمعية                                                                                    

أما العقيدة، فهي منظومة أكثر ثباتاً وعمقاً. العقيدة تحدد القيم التى تُعتبر خطوطاً حمراء: الكرامة، خصوصية الجسد، الحدود بين العام والخاص، طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة، معنى الاحترام. العقيدة لا تتبدل بتبدل الموضات، ولا تخضع لموجة عابرة على السوشيال ميديا؛ لأنها إطار قيمي بُنى عليه المجتمع قروناً. وحين يحدث ارتباك بين الهوية والعقيدة، تبدأ ظاهرة خطيرة: أن يعتبر البعض ما يخالف العقيدة «حرية»، وما يمس الهوية “انفتاحاً” 

وهنا يأتي مفهوم الحرية الشخصية الذي أسيء فهمه حتى فقد معناه الأصلي. الحرية الحقيقية ليست النقيض للأخلاق، بل حركتها داخل حدود الأخلاق. الحرية عند علماء الاجتماع ليست أن «تفعل ما تشاء»، بل أن تفعل ما تشاء دون أن تهدم ركناً من أركان المجتمع أو تُربك وعى الناشئة، من منظور الحاق ضرر بالأخر. ومشهد عناق زميل لممثلة أمام زوجها لا يدخل فى هذا الإطار التعريفي للحرية الشخصية؛ لأنه لا يعبّر عن خصوصية فردية، بل عن استعراض فى المجال العام يُربك مفاهيم البنات الصغيرات بـ«ما يجوز» و«ما لا يجوز»، ويجعل الحدود الأخلاقية تبدو كأنها مجرد آراء شخصية                                                                                                

ثم نصل إلى «التقليد»، وهو أخطر المفاهيم فى هذا السياق. الأكاديميا الثقافية تميز بين «التلاقح الحضاري» وبين «ذوبان الهوية» ركز معايا من فضلك …                               

 التلاقح هو أن تأخذ من ثقافة أخرى ما يتناسب معك وتعيد تشكيله داخلياً. أما الذوبان فهو أن تنقل السلوك كما هو، دون غربلة، ودون وعى، ودون انسجام مع بنيتك القيمية. والتاريخ يملك أمثلة كثيرة لشعوب فقدت هويتها عندما انبهرت بغيرها. شعوب فى شرق أوروبا تبنّت النموذج السوفيتي حتى كادت لغاتها تُمحى. مدن فى آسيا الوسطى فقدت صبغتها الفارسية بسبب التغريب الثقافي المستورد. مجتمعات عربية فى القرن الماضى ركضت خلف «الفرنسة» حتى صحَت على مفارقة قاسية: أنها لم تصبح فرنسية… وفى الوقت نفسه لم تعد تعرف كيف تكون نفسها. التاريخ, يا ساده, لا يتذكر الأمم التى ذابت، بل الأمم التى حافظت على لونها                                                                              

والأخطر من ضياع الهوية هو اتهام المدافع عنها بأنه «غير متفتح» أو «رجعى». وهذا اختزال غير نزيه فالتفتح ليس أن تنسخ الآخرين، بل أن تفهم العالم دون أن تتخلى عن جذورك. والانغلاق ليس تمسكك بثوابتك، بل تخليك عنها خوفاً من اتهام لفظى. المجتمعات القوية هي التى تمتلك القدرة على التعامل مع العالم دون أن تفقد مركزها الداخلى                                                                        وهكذا نعود إلى المشهد الأساسي لندرك أنه ليس «حضناً»، بل «نذيراً». ليس «قبلة»، بل «علامة» على خلل أعمق. ما نراه اليوم ليس سلوكاً فردياً، بل إشعاراً بأن جزءاً من وعينا الجمعي يتعرض لإعادة صياغة ليست منا ولا تشبهنا. وإذا أردنا أن نضع تحذيراً حقيقياً، فلنكتبه فى وعى الناس قبل أسفل الشاشة: احذر… ما تراه ليس تطوراً، بل تقليداً يهدد ملامح مجتمع كامل، وستجد من يسخر ويستهزأ بهذا الحديث، فاذرف الدمع حسرة على ضياع هويته

والأخطر فى الأمر أن تكرار المشهد يصنع تطبيعاً نفسياً. طفلة لم تتجاوز العاشرة قد تنظر إلى عناق «الزميل» للممثلة أمام زوجها وتعتقد أن هذا هو «التحضر» و«التحرر»، بينما هي فى الحقيقة تستقبل درساً مضاداً لقيم مجتمعها، درساً يربّي هشاشة فى نظرتها للعلاقات واحترامها لجسدها ومكانتها. هذه ليست حرية، بل خلط مربك بين المفاهيم. الحرية الأصلية هى التى تمنح الإنسان اتساعاً داخلياً دون أن تقتطع من احترام الآخرين. ما يُروج له البعض اليوم هو «حرية بلا محيط»، حرية تنمو على حساب شعور الملايين بأن شيئاً من روح بلدهم ينزلق من بين أيديهم                                                      ولتعلم أن الهوية التي ندعو للحفاظ عليها والتمسك بها، كما يقول علماء الدراسات الثقافية، ليست صورة على بطاقة، بل ضوء ينبعث من الداخل. يزداد قوة حين نحميه، ويخفت حين نتخلى عنه. ومن فقد هويته فقد لونه، ومن فقد لونه غاب عن التاريخ مهما كان صوته عالياً فى اللحظة

فى النهاية، المسألة ليست «قبلة»، بل «بوصلة». ليست «حضناً»، بل «اتجاهاً». ما نريده من هذا المقال ليس إدانة أشخاص، بل تنبيه إلى فكرة تتسرب بهدوء: أن الهوية يمكن التلاعب بها، ويمكن تحديثها مثل تطبيق على الهاتف. الحقيقة أنها ليست كذلك. الهوية تُصان ولا تُعدّل، تُفهم ولا تُنسخ، تُطور من داخلها لا باستيراد السلوكيات الأكثر صخباً من الخارج 

 هوية تتآكل بصمت: من العناق العابر إلى ضياع البوصلة

هوية تتآكل بصمت: من العناق العابر إلى ضياع البوصلة                                                                

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *