ساعة مع غزل الأعشى – صناجة الشعر
بقلم / السعيد عبدالعاطي مبارك الفايد – مصر ٠
وَدِّع هُرَيرَةَ إِنَّ الرَكبَ مُرتَحِلُ
وَهَل تُطيقُ وَداعاً أَيُّها الرَجُلُ
غَرّاءُ فَرعاءُ مَصقولٌ عَوارِضُها
تَمشي الهُوَينا كَما يَمشي الوَجي الوَحِلُ ٠
من معلقته
في البداية الحديث عن الأدب العربي و الشعر و الشعراء ذو شجون و لِمَ لا فقد حوى مآثر العرب و أخبارهم و روى أيامهم و قصصهم و سجل حياتهم ٠٠
و من ثم توقفت طويلا مع الشاعر ( الأعشى ) الشاعر المخضرم الذي عاصر العصر الجاهلي و عصر الإسلام و كان يسمى صناجة الشعر لجودة شعره و إنشاده و مغامراته مع الغزل و قصصه و معلقته ودع هريرة ٠٠
و قد درس لنا الدكتور الشاعر عميد كلية دار العلوم على الجندي الشعر الجاهلي و المعلقات و أبدع مع الأعشى ٠
ثم قرأت تاريخ الأدب الجاهلي لأستاذنا العلامة د٠ شوقي ضيف و كتاب الأغاني للأصفاني و كتاب الشعر و الشعراء لابن قتيبة و ديوان الأعشى و المعلقات السبع للزوزني ٠٠
و من ثم كتبت دراسات عنه و اليوم نعود لنقدم وجبة شهية من عيون الغزل عند الأعشى ٠٠
* قالوا عن الأعشى:
============
وروي أن عبد الملك قال لمؤدِّب أولاده: أدِّبهم برواية شعر الأعشى؛ فإنه — قاتله الله — ما كان أعذب بحره وأصلب صخره! وقال المفضل: من زعم أن أحدًا أشعر من الأعشى فليس يعرِف الشعر. وقال أبو عبيد: الأعشى هو رابع الشعراء المتقدمين: امرئ القيس والنابغة وزهير.
* و نتوقف مع قصيدة الجن :
– روي أن الأعشى كان مسافرا إلى اليمن و في الطريق أظلم عليه الليل وأمطرت السماء مطراً غزيراً ،
فأراد مكانا يلوذ به عن المطر فرأى من بعيد “خباء” وهو بيت من بيوت الأعراب قديما، وحينما وصل إليه ليختبأ وجد عنده شيخا كبيرا مشوه الخلقة بلحية بيضاء كثيفة، فأدخله الشيخ الخيمة و قال له :
إلى أين تقصد ؟، فقال : أنا الأعشى وأقصد اليمن، فقال الشيخ: هل تجيد الشِعر؟، فقال الأعشى: نعم
فخاطبه الشيخ قائلا: أسمِعني من شِعرك !!
-قال الأعشى :
رحلت ( سُمية ) غدوة أجمالها
غَـضبـىَ عليك فما تقول بـدا لــها
-فقال له الشيخ: من هي سُمية ؟ فرد الأعشى: لا أعلم!
…فطلب منه الشيخ قصيدة أخرى !!
-فقال الأعشى قصيدته الشهيرة :
ودِع ( هريرة ) إن الركـب مرتحل
وهل تطـيـق وداعاً أيـها الرجـل
…عندها إستوقفه الشيخ قائلا : و من هي هريرة ؟
فقال الأعشى : لا أعلم من هي سُمية و لا أعرف من هي هريرة، ولكنها أسماء إنطلقت في روعي فقلتها!!
…..فنادى الرجل الكبير : أخرجي يا سُمية و يا هريرة !!، فخرجتا فتاتين طولهما لايتعدى خمسة أشبار، فإرتعد الأعشى خوفاً و خاطب الشيخ قائلا: من أنت ؟، فرد الشيخ: أنا هاجسك من الجنّ ومُلقي الشعر على لسانك، وهؤلاء بناتي هريرة و سُمية! ٠
وكانوا يسمونه ( صناجة العرب ) لجودة شعره، وكان يقال لأبيه: قتيل الجوع؛ سمي بذلك لأنه دخل غارًا يستظل فيه من الحر، فوقعت صخرة عظيمة من الجبل، فسدت فم الغار، فمات فيه جوعًا، وهجاه بعض بني عمه، فقال:
أبوك قتيل الجوع قيس بن جندل
وخالك عبد من خماعة راضع
وننوه هنا بأن قصيدة الأعشى ( ودع هريرة) هي واحدة من قصائد المعلقات السبع التي كتبت بماء الذهب و التي قيل أن كلماتها من عالم الجن.
* نبذة عنه :
========
هو أبُو بَصِير مَيْمُونُ بن قَيْس بن جَنْدَل بن شَراحِيل بن عَوْف بن سَعْد بن ضُبَيْعة البَكْرِي المعروف بالأَعْشَى وأَعْشَى قَيْس (7 هـ/629 -570 م) شاعر جاهلي من شعراء الطبقة الأولى في الجاهلية، لقِّب بِالأَعْشَى لأنه كان ضعيفَ البصر، والأعشى في اللغة هو الذي لا يرى ليلًا ويقال له: أعشى قيس والأعشى الأكبر.
الأعشى من الشعراء الذين يتكسّبون بشعرهم، بل هو أوّل من تكسّب بشعره، كما يذهب طائفة من مؤرّخى العرب، وكان كثير التردّد على الملوك وذوى الجاه والسلطان يمدحهم لينال ما فى أيديهم من مال ونحوه من الأعطيات.
* نهاية الأعشى الشاعر المخضرم الذي أدرك الجاهلية و الإسلام :
ويضيف ابن عساكر أنّه لمّا كان فى مكة أو قريبًا منها إذا بجمعٍ من مشركى قريش يعترضه وقد سمعوا أنّه يريد الإسلام، فسألوه أين تريد؟ فقال إنّه يريد رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- ليعلن إسلامه، وكان معهم آنذاك أبو سفيان بن حرب وكان سيّد مكّة بعد هلاك رؤوس الكفر آنذاك، فقال أبو سفيان للأعشى: إنّ محمّدًا يمنعك الزنا، فقال إنّه قد كبر ولم يعد به حاجة للنساء، فقالوا يمنعك القمار، فقال ربما يعوضنى بما عنده فقالوا إنّه يمنعك الخمر، فقال إذًا أرجعُ فأنهى ما عندى من الخمر ثمّ أعود عامى القادم، فقالوا له إنّهم الآن فى هدنة، والغالب أنّه صلح الحديبية، فقالوا إذا كان العام القادم فإمّا أن نكون قد ظهرنا عليه فتبقى عندك وإمّا أن يظهر علينا فتعود وتسلم.
وأمر أبو سفيان بتجهيزه بمائة إبل قائلًا: “يا معشر قريش، هذا الأعشى والله لئن أتى محمدًا واتّبعه ليُضرمَنّ عليكم نيران العرب بشعره، فاجمعوا له مئة من الإبل”، فجمعوا له مئة من الإبل وأخذها، ولكن فى طريقه قرب اليمامة رمى به بعيره فوقع عنه ومات.
***
و نعيش مع هذه الأبيات الغزلية الرائعة من قصيدة ( ألا قل لتياك ما بالها) و التي يقول فيها الأعشى :
أَلا قُل لِتَيّاكَ ما بالُها
أَلِلبَينِ تُحدَجُ أَحمالُها
أَم لِلدَلالِ فَإِنَّ الفَتا
ةَ حَقٌّ عَلى الشَيخِ إِدلالُها
فَإِن يَكُ هَذا الصِبى قَد نَبا
وَتَطلابُ تَيّا وَتَسآلُها
فَأَنّى تَحَوَّلُ ذا لِمَّةٍ
وَأَنّى لِنَفسِكَ أَمثالُها
عَسيبُ القِيامِ كَثيبُ القُعو
دِ وَهنانَةٌ ناعِمٌ بالُها
إِذا أَدبَرَت خِلتَها دِعصَةً
وَتُقبِلُ كَالظَبيِ تِمثالُها
وَفي كُلِّ مَنزِلَةٍ بِتَّها
يُؤَرِّقُ عَينَيكَ أَهوالُها
هِيَ الهَمُّ لَو ساعَفَت دارُها
وَلَكِن نَأى عَنكَ تَحلالُها
وَصَهباءَ صِرفٍ كَلَونِ الفُصوصِ
سَريعٍ إِلى الشِربِ إِكسالُها
تُريكَ القَذى وَهيَ مِن دونِهِ
إِذا ما يُصَفَّقُ جِريالُها
شَرِبتُ إِذا الراحُ بَعدَ الأَصي
لِ طابَت وَرُفِّعَ أَطلالُها
وَأَبيَضَ كَالنَجمِ آخَيتُهُ
وَبَيداءَ مُطَّرِدٍ آلُها
قَطَعتُ إِذا خَبَّ رَيعانُها
وَنُطِّقَ بِالهَولِ أَغفالُها
و يقول في هذه القصيدة التالية و التي تفوح بالغزل و ترسم صورة من البيئة و تعكس مدى الصب و الوجد في حوارية جميلة واصفا المحبوبة فيقول فيها الأعشى:
امَ الخَلِيُّ وَبِتُّ اللَيلَ مُرتَفِقا
أَرعى النُجومَ عَميداً مُثبَتاً أَرِقا
أَسهو لِهَمّي وَدائي فَهيَ تُسهِرُني
بانَت بِقَلبي وَأَمسى عِندَها غَلِقا
يا لَيتَها وَجَدَت بي ما وَجَدتُ بِها
وَكانَ حُبٌّ وَوَجدٌ دامَ فَاِتَّفَقا
لا شَيءَ يَنفَعُني مِن دونِ رُؤيَتَها
هَل يَشتَفي وامِقٌ ما لَم يُصِب رَهَقا
صادَت فُؤادي بِعَينَي مُغزِلٍ خَذَلَت
تَرعى أَغَنَّ غَضيضاً طَرفُهُ خَرِقا
وَبارِدٍ رَتِلٍ عَذبٍ مَذاقَتُهُ
كَأَنَّما عُلَّ بِالكافورِ وَاِغتَبَقا
وَجيدِ أَدماءَ لَم تُذعَر فَرائِصُها
تَرعى الأَراكَ تَعاطى المَردَ وَالوَرَقا
وَكَفلٍ كَالنَقا مالَت جَوانِبُهُ
لَيسَت مِنَ الزُلِّ أَوراكاً وَما اِنتَطَقا
كَأَنَّها دُرَّةٌ زَهراءُ أَخرَجَها
غَوّاصُ دارينَ يَخشى دونَها الغَرَقا
قَد رامَها حِجَجاً مُذ طَرَّ شارِبُهُ
حَتّى تَسَعسَعَ يَرجوها وَقَد خَفَقا
لا النَفسُ توئسُهُ مِنها فَيَترُكُها
وَقَد رَأى الرَغبَ رَأيَ العَينِ فَاِحتَرَقا
وَمارِدٌ مِن غُواةِ الجِنِّ يَحرُسُها
ذو نيقَةٍ مُستَعِدٌّ دونَها تَرَقا
لَيسَت لَهُ غَفلَةٌ عَنها يُطيفُ بِها
يَخشى عَلَيها سَرى السارينَ وَالسَرَقا
حِرصاً عَلَيها لَوَ اِنَّ النَفسَ طاوَعَها
مِنهُ الضَميرُ لَيالي اليَمِّ أَو غَرِقا
في حَومِ لُجَّةِ آذِيٍّ لَهُ حَدَبٌ
مَن رامَها فارَقَتهُ النَفسُ فَاِعتُلِقا
مَن نالَها نالَ خُلداً لا اِنقِطاعَ لَهُ
وَما تَمَنّى فَأَضحى ناعِماً أَنِقا
تِلكَ الَّتي كَلَّفَتكَ النَفسُ تَأمُلُها
وَما تَعَلَّقتَ إِلّا الحَينَ وَالحَرَقا
و نختم بمطلع معلقته الأعشى تحت عنوان ( ودع هريرة ) و هريرة هذه هي اسم محبوبته التي يتغزل فيها قبل الدخول إلى غرض القصيدة فيقول فيها :
وَدِّع هُرَيرَةَ إِنَّ الرَكبَ مُرتَحِلُ
وَهَل تُطيقُ وَداعاً أَيُّها الرَجُلُ
غَرّاءُ فَرعاءُ مَصقولٌ عَوارِضُها
تَمشي الهُوَينا كَما يَمشي الوَجي الوَحِلُ
كَأَنَّ مِشيَتَها مِن بَيتِ جارَتِها
مَرُّ السَحابَةِ لا رَيثٌ وَلا عَجَلُ
تَسمَعُ لِلحَليِ وَسواساً إِذا اِنصَرَفَت
كَما اِستَعانَ بِريحٍ عِشرِقٌ زَجِلُ
لَيسَت كَمَن يَكرَهُ الجيرانُ طَلعَتَها
وَلا تَراها لِسِرِّ الجارِ تَختَتِلُ
يَكادُ يَصرَعُها لَولا تَشَدُّدُها
إِذا تَقومُ إِلى جاراتِها الكَسَلُ
إِذا تُعالِجُ قِرناً ساعَةً فَتَرَت
وَاِهتَزَّ مِنها ذَنوبُ المَتنِ وَالكَفَلُ
مِلءُ الوِشاحِ وَصِفرُ الدَرعِ بَهكَنَةٌ
إِذا تَأَتّى يَكادُ الخَصرُ يَنخَزِلُ
صَدَّت هُرَيرَةُ عَنّا ما تُكَلِّمُنا
جَهلاً بِأُمِّ خُلَيدٍ حَبلَ مَن تَصِلُ
أَأَن رَأَت رَجُلاً أَعشى أَضَرَّ بِهِ
رَيبُ المَنونِ وَدَهرٌ مُفنِدٌ خَبِلُ
نِعمَ الضَجيعُ غَداةَ الدَجنِ يَصرَعَها
لِلَّذَةِ المَرءِ لا جافٍ وَلا تَفِلُ
هِركَولَةٌ فُنُقٌ دُرمٌ مَرافِقُها
كَأَنَّ أَخمَصَها بِالشَوكِ مُنتَعِلُ
إِذا تَقومُ يَضوعُ المِسكُ أَصوِرَةً
وَالزَنبَقُ الوَردُ مِن أَردانِها شَمِلُ
ما رَوضَةٌ مِن رِياضِ الحَزنِ مُعشَبَةٌ
خَضراءُ جادَ عَلَيها مُسبِلٌ هَطِلُ
يُضاحِكُ الشَمسَ مِنها كَوكَبٌ شَرِقٌ
مُؤَزَّرٌ بِعَميمِ النَبتِ مُكتَهِلُ
يَوماً بِأَطيَبَ مِنها نَشرَ رائِحَةٍ
وَلا بِأَحسَنَ مِنها إِذ دَنا الأُصُلُ
عُلَّقتُها عَرَضاً وَعُلَّقَت رَجُلاً
غَيري وَعُلَّقَ أُخرى غَيرَها الرَجُلُ
وَعَلَّقَتهُ فَتاةٌ ما يُحاوِلُها
مِن أَهلِها مَيِّتٌ يَهذي بِها وَهِلُ
وَعُلِّقَتني أُخَيرى ما تُلائِمُني
فَاِجتَمَعَ الحُبَّ حُبّاً كُلُّهُ تَبِلُ
فَكُلُّنا مُغرَمٌ يَهذي بِصاحِبِهِ
ناءٍ وَدانٍ وَمَحبولٌ وَمُحتَبِلُ
قالَت هُرَيرَةُ لَمّا جِئتُ زائِرَها
وَيلي عَلَيكَ وَوَيلي مِنكَ يا رَجُلُ
يا مَن يَرى عارِضاً قَد بِتُّ أَرقُبُهُ
كَأَنَّما البَرقُ في حافاتِهِ الشُعَلُ
لَهُ رِدافٌ وَجَوزٌ مُفأَمٌ عَمِلٌ
مُنَطَّقٌ بِسِجالِ الماءِ مُتَّصِلُ
لَم يُلهِني اللَهوُ عَنهُ حينَ أَرقُبُهُ
وَلا اللَذاذَةُ مِن كَأسٍ وَلا الكَسَلُ
فَقُلتُ لِلشَربِ في دُرنى وَقَد ثَمِلوا
شيموا وَكَيفَ يَشيمُ الشارِبُ الثَمِلُ
بَرقاً يُضيءُ عَلى أَجزاعِ مَسقِطِهِ
وَبِالخَبِيَّةِ مِنهُ عارِضٌ هَطِلُ
قالوا نِمارٌ فَبَطنُ الخالِ جادَهُما
فَالعَسجَدِيَّةُ فَالأَبلاءُ فَالرِجَلُ
فَالسَفحُ يَجري فَخِنزيرٌ فَبُرقَتُهُ
حَتّى تَدافَعَ مِنهُ الرَبوُ فَالجَبَلُ
حَتّى تَحَمَّلَ مِنهُ الماءَ تَكلِفَةً
رَوضُ القَطا فَكَثيبُ الغَينَةِ السَهِلُ
يَسقي دِياراً لَها قَد أَصبَحَت عُزُباً
زوراً تَجانَفَ عَنها القَودُ وَالرَسَلُ
وَبَلدَةً مِثلِ ظَهرِ التُرسِ موحِشَةٍ
لِلجِنِّ بِاللَيلِ في حافاتِها زَجَلُ ٠٠
و بعد هذه الرحلة الغزلية مع صناجة الشعر الأعشى نتمنى أن نكون قد قدمنا ملامح من حياته و شعره بين العصرين الجاهلي و الإسلامي و توقفنا مع قطوف من الغزل و مطلع معلقته ودع هريرة و التي كُتبت بالذهب و علقت على أستار الكعبة ٠٠
مع الوعد بلقاء متجدد إن شاء الله ٠
ساعة مع غزل الأعشى – صناجة الشعر


