هنا نابل حديثُنا قياس ….
بِقَلَمِ المعز غني
في زاوية هادئة من الذاكرة ، حيث تلتقي تفاصيل اليوم بعمق المساء ، يبدأ الكلام عن قياس الأشياء : كيف نزنُها؟ أين نضع معيار القيمة؟ نكاد نعتقد أن الحسابات كلها تقاس بالمال ، وأنّ مقياس النجاح هو ضخامة الحساب المصرفي ، وسعة منزلٍ ، وسيارة لامعة.
لكن الحقيقة أعمق وأهدأ ؛ المال وسيلة — لا أكثر ولا أقل — ومَن يجعل منه غاية فقد أخطأ الطريق قبل أن يبدأ الرحلة.
الإنسان غني حين يملك أخلاقه ، حين تُعطى كلماته وزنًا ، وحين يكون العمل عنده جسدًا للفخر لا مجرد وسيلة لكسب دنانير.
الغنى الحقيقي هو في العطاء الذي لا يُعلن عن نفسه ، في الإبتكار الذي يُنقّب عن معنى ، وفي الطموح الذي يضيء دروب الآخرين قبل أن يصل إلى قمته.
لهذا أقول : أجتهد ، أبتكر ، أبدع ، وأجعل العالم يرى أفضل ما لديك — ليس لتتوهج الأضواء حولك ، بل لتضيء في داخلك شمعة تستمر في الإشراق .
لا تتسلق الجبال ليراك العالم ، بل تسلقها لترى أنت العالم في لحظة تسلقك تتبدل المناظير : لا يعود العالم شيئًا يجب إقناع الناس به ، بل يصبح أنت بؤرة النظر ، تلتقط تفاصيله وتستوعب عظمه.
التسلّق ليس للتباهي ، بل درس في الخشوع ، في معرفة المسافات ، في إستشراف الخيبات والإنجازات على حدّ سواء.
من الأعلى ترى ضآلة ما ظننت أنه كبير ، وتكتشف أن الحياة لم تكن مجرد سباق لإثبات الذات أمام الآخرين.
ونحن نمضي في هذه الرحلة ، يذكّرنا قدرنا بحدودنا وبحجم ما لنا وما علينا.
أقدارنا قد كتبت ، وأعمارنا محددة ، ورزقنا محسوب — لكن هذه المعادلة لا تعني الجمود ، بل تدعونا لنستثمر في الحاضر برفقٍ وحكمة.
ليس معنى الإعتراف بالقدر أن نترك الأيدي متراخية ، بل أن نعمل ونحن مطمئنون لنتائج ليست بأيدينا.
إنّ السلام الحقيقي هو الرضا مع بذل الجهد ، هو أن نزرع ونعلم أننا لا نحكم على حصادنا فقط ، بل على نية زرعنا وصدق عملنا.
السعادة لا تعني عدم البكاء أو عدم الحزن ؛ بل هي القدرة على التعايش مع ما يأتي وتقبّله بشكر وحمد.
السعادة ليست حالةً مستمرة دون تقلب ، بل فن التعامل مع تقلبات الحياة حين نستطيع أن نحزن بلا تشويش على جوهرنا ، وأن نفرح بدون خشية من العتمة القادمة ، نكون قد أقتربنا من جوهر السعادة.
ليست السعادة أن نمتلك كل شيء ، بل أن نمتلك قدرة على الإحتفاء بما لدينا ، وأن نبني بهدوء بيتًا من الإمتنان
في صفحات العمر نحتاج إلى مقياسٍ داخلي لا يطبعهُ منظر خارجي.
قياسنا ينبغي أن يكون أخلاقيًا ، عملاً وسلوكيًا ، وقدرة على الإستمرار في التخلق بالحياة.
من يعطي بلا إنتظار مقابل يبني ثروةً لا تُحصى ؛ من يعمل بجدٍّ وأدبٍ يُلهم من حوله ؛ ومن يحلم بصدقٍ يُسهم في تغيير العالم بصمتٍ لا بهرجة فيه.
لأجل ذلك ، لا نخشى الفشل ؛ لأن الفشل مجرد معلمٍ قاسٍ لكنه أمين ، ويعلمنا كيف نصقل ذاتنا .
وإذا كان الناس في سعيهم قد يخطئون في تقييم الأولويات ، فلتكن لنا جرأة الإعتراف بالخطأ ، ولتكن لنا شجاعة تغيير المسار. ليس العيب في أن تتبدل أهدافك ، بل العيب أن تبقى مرتبطًا بصورٍ لا تليق بك.
الحياة ليست سباقًا ضد المجهول بل هي رحلة إكتشاف داخلي ، ومسيرة نحت نُفوسنا بسكين التجربة.
وما نتركه وراءنا من أثرٍ أصدق من أي لقب يزين جدارًا أو صفحة إلكترونية .
فلنمضِ إذًا ، نعيش بذاتٍ مُمكنة وبُعدٍ إنساني ، نحب الصدق كقياس ، ونرى في العمل جسرًا نحو الذات وليس وسيلة للتفاخر . لنرتقِ بالجود ، ونصنع من أيامنا حكايةً تستحق أن تُروى ، بسيطةً وعميقة في آنٍ معًا.
في نهاية الطريق ، لن يكون ما جمعناه من أموال هو الذي يُحسب ؛ بل ما زرعناه في القلوب ، وما علّمناه للأجيال ، وما بقي من أثرٍ صالحٍ ينير دروب من بعدنا .
هذا حديثُنا قياس — عن المال ، عن الأخلاق ، عن الطموح والرضا — عن كل ما يجعلنا أغنى مما تظنُّ محافظنا.
إنها دعوة إلى أن نجعل من حياتنا رحلة تستحقُّ المشي ، لا منصّةً نترقّب عليها التصفيق .
بقلم المعز غني عاشق الترحال وروح الاكتشاف
هنا نابل حديثُنا قياس ….


