الليل الذي يسكن الناس بلا شهود
بقلم/نشأت البسيوني
هناك ليل لا يشبه أي ليل عادي لا يختفي مع بزوغ الشمس ولا يترك خلفه ظلالا واضحة هو ليل يسكن الناس بلا شهود يتسلل إلى قلب الانسان بهدوء ثم يمد خيوطه في كل تفاصيل حياته بلا اعلان بلا صوت يراها وحده الذي يعرف كيف يستمع لصمت الليل في هذا الليل يمشي الناس حول بعضهم يظنون انهم يعيشون نهارا طبيعيا يضحكون يبتسمون يتحدثون بينما جزء منهم عالق في ظلال الليل
يختزن الافكار المخفية والمشاعر المكبوتة والذكريات التي لم يتم التعامل معها صمت الليل يصبح مكانا آمنا للبكاء للبكاء وحده بدون تدخل لا نصائح ولا شفقة ولا احاديث تفسد شعور الانسان الليل يعلم الانسان الصبر بطريقة مختلفة عن النهار يعلم الانسان ان لا كل ما نراه واضح ولا كل ما نسمعه حقيقي ولا كل علاقة نقيمها مباشرة فان ما يختزن في القلب وحده غالبا هو الاهم وهو ما
يشكلنا ببطء دون ان نلاحظ فيصبح الليل صديقا صامتا يقيس ارادتنا وقدرتنا على الاحتمال والتحمل في ساعات الليل يصبح الانسان اكثر صدقا مع نفسه اكثر قدرة على مواجهة خيباته اكثر استعدادا لقبول حقيقة انه لا يملك كل شيء وان كل ما يعتقد انه يعرفه عن نفسه وعن الآخرين ليس الا جزء صغير من الحقيقة الكاملة الليل يرسم حدود الانسان ويمنحه الفرصة ليرى نفسه بدون
اقنعة بدون ادعاءات بدون جمهور أخطر ما في الليل انه يظهر حجم الفراغات التي نعيشها بصمت فراغات العلاقات التي لم نقدرها الفراغات التي تركناها تهرب منا الفراغات التي لم نتعامل معها مع انفسنا ومع من نحب كل هذه الفراغات تصبح واضحة عندما يهبط الليل علينا كظلال ثقيلة تجعلنا ندرك اننا نحتاج اكثر مما اعتقدنا ونستحق اكثر مما سمحنا لنفسنا لكن الليل ايضا يحمل فرصة فهم
وفرصة ولادة جديدة فبهدوئه نصغي اكثر لانفسنا نصغي لما لم نجرؤ على سماعه في النهار نصغي لأحلامنا التي كتمناها نصغي لمخاوفنا التي حاولنا تجاهلها نصغي لنور خافت في داخلنا يقول لنا اننا قادرون على التغيير حتى لو لم يصدقنا احد الصمت الذي يرافق الليل يعلم الانسان ان هناك قوة غير مرئية تحيط بكل لحظة وان كل شعور مختزن وكل فكرة مكبوتة تحمل معناها العميق وان
القدرة على الاحتمال ليست مجرد صبر بل وعي وفهم لكل ما يحيط بنا من داخلنا ومن خارجنا الليل الذي يسكن الناس بلا شهود يعلمنا ان الصمت ليس فراغا وان الظلام ليس عدما وان كل ما يختفي عن العيون يمكن ان يكون اكثر حقيقة مما نراه كل يوم انه يضعنا امام ذواتنا امام مشاعرنا امام حدودنا لنخرج من كل ليلة اقل خوفا اكثر وعيا اكثر استعدادا للحياة التي تنتظرنا حين تشرق
الشمس مرة اخرى هكذا يصبح الليل ليس مجرد وقت بين الغروب والشروق بل تجربة صامتة تعلمنا ان ما يحدث في الداخل اهم من كل ما يراه العالم وان الانسان حين يعيش ليله بلا شهود يبدأ في فهم ذاته وفهم الحياة بطريقة لا يستطيع النهار وحده منحها له وهنا تنتهي الحكاية لا لان الليل انتهى بل لان الانسان اخيرا بدأ يرى نفسه بعين واعية ويفهم ان الظلام يمكن ان يكون معلمنا الصامت الاهم في هذه الحياة وان كل لحظة في صمت الليل هي فرصة للنمو والتغيير والتحرر
الليل الذي يسكن الناس بلا شهود


